الوقت - بعد سنوات من غياب العمل الدبلوماسي الذي عانت منه الجزائر إبان السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المقال عبد العزيز بوتفليقة، تسعى الان الى استعادة الزمن الضائع في عهد الرئيس الجديد عبد المجيد تبون وبناء نموذج دبلوماسي قائم على توظيف موارد البلاد وقوتها العسكرية.
وغابت الدبلوماسية الجزائرية لعدة سنوات، ما بين سنتي 2012 الى 2019، عن الساحة الدولية بسبب حالة المرض الذي عانى منه الرئيس بوتفليقة وإصراره على عدم تفويض الصلاحيات الدبلوماسية الى غيره من المسؤولين، في ظل التطورات السياسية المهمة التي عاشها العالم خلال السنوات الأخيرة.
وما زالت الجزائر لا تتمتع باستقرار مثالي داخلي بعد ما يسمى الربيع العربي والاحتجاجات التي شهدتها البلاد سنتي 2018 حتى 2020 دليل على ذلك، ولكن يحاول الرئيس الجديد عبد المجيد تبون دعم الاستقرار بمبادرة “لم الشمل” التي اقترحها، اضافة الى سعي البلاد لرسم صورة جديدة لها في الخريطة الدولية، وتجد في مشاكل منطقة الساحل والعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا الفرصة المناسبة.
وتحولت الجزائر الى وسيط للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل، وهي الدولة الإقليمية الوحيدة القادرة على احتواء المد الإرهابي في مالي بفضل العلاقات الجيدة التي تجمعها بالسلطات العسكرية الحاكمة في مالي، وبالعلاقات المتينة مع روسيا التي عززت من نفوذها في منطقة الساحل، وعلقت جريدة “الشروق” الجزائرية على هذا التوجه في مقال لها اليوم الأحد بـ “دبلوماسية الجزائر أقوال لا أفعال”.
ويدق الاتحاد الأوروبي أبواب الجزائر للحصول على جزء من الغاز لتعويض التخفيض كعقوبات عن الغاز الروسي، وتظل الجزائر منفتحة على مطالب أوروبا في الطاقة دون الإضرار بمصالح حليفها الاستراتيجي الروسي.
وتحولت الجزائر الى قبلة لعدد من المسؤولين الأوروبيين والأفارقة والعرب خلال السنة الأخيرة، واستعادت رئاسة البلاد نشاطها بزيارات دول تحظى باهتمام مثل زيارة تبون الى تركيا وإيطاليا الشهر الماضي.
وتعمل الجزائر مع نيجيريا وجنوب إفريقيا وكينيا على رسم دور جديد للقارة الإفريقية في الخريطة الدولية.
وتنظر إسرائيل بعين القلق للنموذج الجزائري الذي يكرس نفسه مثالا، فقد عمدت إسرائيل الى تطبيق خطة تجاه الأنظمة العربية تقتضي يإقناعها بالتطبيع لأن ضمان أمن الدول العربية يمر عبر التنسيق مع إسرائيل، وستفتح لها أبواب الغرب من باريس ولندن الى واشنطن بفضل اللوبي اليهودي العالمي.
وعمدت الجزائر الى اقتناء أسلحتها من دول مثل روسيا والصين التي لا تخضع للوبي اليهودي ولا تأثيراته بدل فرنسا والولايات المتحدة، وإن كانت الإدارة الجزائرية الحالية تستمر في تعزيز تقليد شراء الأسلحة من الشرق.
وتعاني إسرائيل من الجزائر في قضايا منها أنها ما زالت سدا نحو سقوط تونس في أحضان التطبيع رغم بعض مساعي مساعدي الرئيس قيس سعيد التقرب من الصهاينة لتخفيف الضغط عليه.
وتدرك سلطات تونس أن مصالحها قوية مع الجزائر في الطاقة والتبادل التجاري والقروض المالية، وستفقد كل شيء إذا اقتربت من إسرائيل.
وتعرقل الجزائر حصول إسرائيل على صفة عضو مراقب في الاتحاد الإفريقي وبدأت حملة مع إفريقيا لطردها من المحفل الإفريقي.
وكادت إسرائيل في السنوات الماضية التسرب الى الجزائر بعدما بدأ فريق بوتفليقة يبحث عن دعم وصمت دولي للولاية الرابعة له، وبدأت في التقرب من مثقفين وصحفيين، وتغيرت الأوضاع، ولم تعد إسرائيل في موقف هجومي بل في موقف دفاعي أمام النموذج الذي تشيده الجزائر في المجال العسكري والدبلوماسي ويحول دون تغلغل التطبيع، بل تحوله الى نموذج لباقي الدول لوقفه.
ورغم أن سلطات الكيان الصهيوني لم تخفِ يوما عداءها للجزائر، إلا أن زخم تصريحات سياسييها ومحلليها زاد في الفترة الأخيرة، في ظل تمسك الجزائر بعدائها الأبدي لهذا الكيان، رغم انسياق أغلب الدول العربية وراء مخطط التطبيع، وعلى رأسها المغرب التي تحولت إلى قاعدة استخباراتية صهيونية، هدفها الأول هو الجزائر.
تخطو السياسة الجزائرية من خلال نموذج الدفاع في العلاقات الخارجية الذي تنتهجه خطوات مهمة نحو مواجهة مسار التطبيع العلني مع الكيان الإسرائيلي سواء مع المغرب والذي يبدو انه بدأ يأخذ مسارا خطيرا لاستهداف الجزائر وتونس وبقية دول منطقة المغرب العربي الرافضة للتطبيع والاعتراف بالكيان، او من خلال الضغوط التي تتعرض لها من قبل القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا.
وفي إطار هذا النموذج تتجه الجزائر اليوم الى تفعيل علاقاتها مع حلفائها المؤثرين على الساحة الدولية وعلى رأسهم الصين وروسيا وإيران في تموضع جديد في محور معادٍ وممانع لكل سياسات الهيمنة والسيطرة الغربية والأمريكية.
تتحرك الدبلوماسية الجزائرية اليوم بمنهجية جديدة تنبئ بتطورات كثيرة على مستوى الخيارات والسياسات والتوجهات التي ستعتمد عليها لمواجهة التحديات الكبرى وعلى رأسها خطر التطبيع مع الكيان الاسرائيلي ودخوله للساحة المغاربية والافريقية من بوابة المغرب.