الوقت- كما کان متوقعاً، سرعان ما ثار غضب الشعب العراقي علی المصالح الأمريكية في البلاد، وکانت الشرارة الأولى اندلاع احتجاجات أمام سفارة واشنطن في بغداد، بحيث دفع الخوف من الاستيلاء الكامل على السفارة والأحداث غير المتوقعة، البيت الأبيض إلى إخراج الدبلوماسيين وموظفي السفارة.
المتظاهرون الذين شيعوا جثامين شهداء العدوان الأمريكي الأخير بحق الشعب العراقي، توجهوا نحو المنطقة الخضراء ببغداد کموجة عارمة للتعبير عن إدانتهم لهذه الجريمة الهمجية، وسيَّروا مظاهرات احتجاجية خارج السفارة لعدة ساعات، وأحرقوا العلم الأمريكي وكتبوا على جدران السفارة هتافات، ووسط إطلاق مستمر لقذائف الدخان والغاز المسيل للدموع من قبل قوات الأمن، تمكنوا أخيراً من الدخول إلى محيط السفارة وموقف السيارات، عن طريق العبور من الحواجز الأمنية. ورسالة الشعب واضحة ألا وهي يجب على أمريكا أن تغادر العراق.
نتيجةً لذلك، فإن البيت الأبيض الذي نفذ الهجوم الأخير على قوات الحشد الشعبي، من أجل حماية مصالحه الخاصة وتعزيز أمن قواته، يجد نفسه الآن في مأزق كبير لا يمكن التخلص منه بسهولة.
المسؤولون الأمريكيون الذين مازالوا يتهربون من قبول المسؤولية عن انتهاك سيادة العراق، يتحدثون باستمرار عن الرد على إيران. وفي هذا الصدد، غرَّد ترامب في حسابه على تويتر قائلاً: "لقد قتلت إيران المقاول الأمريكي في العراق وأصابت العديد. نحن رددنا علی ذلك بقوة وسوف نفعل دائماً. تقوم إيران حالياً بتنسيق هجوم على سفارة واشنطن في العراق. إنهم مسؤولون عن ذلك بالكامل. إضافةً إلى ذلك، نتوقع أن يستخدم العراق قواته العسكرية لحماية سفارتنا في بغداد".
من نواح كثيرة، يمكن اعتبار هذه التصريحات إشارةً إلى يأس المسؤولين الأمريكيين من الخروج من الأزمة الحالية.
فمن ناحية، بينما يظهر العراق بأکمله وبصوت واحد تقريباً منذ الأمس الرد السلبي تجاه العدوان الأمريكي وعدم احترام سيادة العراق الوطنية، نری مسؤولي واشنطن وبدلاً من الاعتذار الرسمي وقبول الخطأ للحد من غضب الشعب العراقي، يواصلون التأكيد على کون غضب العراقيين في غير محله، بل أکثر من ذلك يعتبرون طبيعة الاحتجاجات بأنها غير عراقية.
ومن خلال القيام بذلك، تکون واشنطن قد سخرت عملياً من عقول ملايين المواطنين العراقيين، وکأن الشعب العراقي ليس لديه علم بأكثر من عقد من الاحتلال والقتل للمدنيين والتآمر والتدخل وإثارة الفوضی وغير ذلك من قبل الأمريكيين في بلدهم.
من ناحية أخرى، يظهر موقف ترامب عمق التناقض وعدم الثبات في سياسات البيت الأبيض تجاه التطورات العراقية.
المسؤولون ووسائل الإعلام الأمريكية وخلال الاحتجاجات الشعبية في العراق، يتحدثون دائماً عن الطابع الإيراني للاحتجاجات، وحتى لإثبات ذلك قد نفذوا هجمات في عدة مرات ضد المواقع الدبلوماسية الإيرانية في النجف وكربلاء والبصرة، باستخدام عناصرهم مثل فلول حزب البعث.
لكن الآن وفي تناقض واضح لتلك المواقف، تعترف واشنطن دون وعي بأن نفوذ إيران قوي لدرجة أنه بعد الهجوم على القوات المقربة من محور المقاومة(حسب ادعائهم)، فإن طهران قادرة على تعبئة الآلاف وجعل السفارة الأمريكية على شفا الاستيلاء والإغلاق!
تعكس هذه المواقف المتناقضة استمرار السياسات الخاطئة الماضية والأخطاء الاستراتيجية لأمريكا في العراق، ولکن هذه المرة وعلی عکس الماضي، حتى لو لم يطالب المسؤولون السياسيون العراقيون بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية، فإن الشعب العراقي هو الذي يطالب بذلك من خلال تشكيل حركة شعبية ضد وجود القوات الأمريكية. وفي هذه الظروف، ما علينا سوی انتظار ما ستؤول إليه أحداث الأيام القليلة القادمة.