الوقت- بعد مرور تسع سنوات على حرب 2006، نشرت القيادة العليا في الجيش الإسرائيلي، في سابقة هي الأولى من نوعها وثيقة تحت عنوان "استراتيجية الجيش الإسرائيلي". الوثيقة الجديدة التي يطلق عليها البعض "عقيدة إيزنكوت" حملت توقيع رئيس الأركان ذي الأصول المغربية غادي إيزنكوت، وخلصت في طياتها إلى دروس ونتائج ترتبط بشكل وثيق بحرب لبنان الثانية والأحداث الإقليمية الجارية حالياً.
إيزنكوت الذي تخرج من الكلية العسكرية التابعة لقوات اليابسة الأمريكية، حاول أن يحذو حذو الجيش الأمريكي الذي ينشر بشكل دوري وثيقة مشابهة تدعى "الاستراتيجية العسكرية القومية " ، معلناً على الملأ عن وثيقة أمنية رفيعة مؤلفة من 33 صفحة، تشرح وظيفة الجيش الإسرائيلي، وتحدد أهدافه العسكرية وطرق تحقيقها، كما تنظم الوثيقة علاقات المستوى الأمني بالمستوى السياسي.
ترتبط "عقيدة إيزنكوت" إرتباطاً وثيقاً بخلاصات ونتائج الحروب الأخيرة التي شنتها القوات الإسرائيلية على لبنان 2006، وحروب غزة الأخيرة، إضافةً إلى إرتباطها بشكل وثيق بظهور التيارات التكفيرية في المنطقة، نظراً لتجارب رئيس الأركان الذي كان خلال عام 2003 والانتفاضة الفلسطينية الثانية قائداً لفرقة الضفة الغربية، وخلال حرب الکيان الإسرائيلي الثانية مع لبنان، مسؤولاً عن تخطيط وتطبيق عمليات الجيش الإسرائيلي، كما أنه عمل قبل ذلك سكريتيراً عسكرياً لرئيس الحكومة ووزير الدفاع إيهود باراك عام 1999.
حاول رئيس الأركان في مراسم تقلده رتبته الجديدة (جنرال)، إختصار جوهر الوثيقة بالعبارة التالية: "الشرق الأوسط يغير وجهه بشكل لا مثيل له، والتحديات تلزمنا أن نتصرف بتصميم ومسؤولية، والجيش الإسرائيلي قوي ومستعد ومصمم، وسيحقق غايته لردع العدو وإبعاد الحرب"، إلا أن القراءة الدقيقة للوثيقة التي تم تعميمها قبل شهر بصيغتها السرية على كبار ضباط الجيش الإسرائيلي، وحذف البعض منها قبل نشرها على الملأ، تشير إلى دلالات عدّة أبرزها:
أولاً: لقد ساهمت الجماعات التكفيرية في المنطقة بتدمير الدول والجيوش التي من الممكن أن تمثل تهديداً لتل أبيب، وهو ما دفع بإيزنكوت لإعتبار أعداء الکيان الإسرائيلي في الحاضر ليسوا دولا مجاورة تهدد بالهجوم عليها من كل جانب (تظهر سوريا في هذه الوثيقة، على سبيل المثال، أنها "دولة فاشلة، قيد التفكك)، إنما حركة حماس في قطاع غزة وتنظيم حزب الله في لبنان.
ثانياً: تجنب رئيس الأركان الوقوع في فخ أسلافه عبر رفع سقف الأهداف المتوخاة من العملية العسكرية، عندما إعتبر أن الهدف من المواجهة مع هذين التنظيمين (حزب الله وحركة حماس) هو "تحقيق الأهداف السياسية المحدّدة في مواجهة مستقبلية، من أجل تحسين الوضع الأمني"، وبالتالي لم تتحدث الوثيقة عن القضاء على حزب الله وحماس كما كان يؤكد قادة الكيان في كافّة المراحل السابقة، حيث لم يشمل "الانتصار" أو "الإنجازات" القضاء على منظمات مثل حماس أو حزب الله، أو احتلال منطقة لفترة طويلة . بإختصار تشير الوثيقة إلى تراجع إسرائيلي غير مسبوق في التعاطي مع حزب الله وحركة حماس، وإن كان الأمر يبدو أكثر واقعية.
ثالثاً: لم تختلف الإستراتيجية الجديدة عن الحروب السابقة للكيان الإسرائيلي في التعاطي مع الأيام الأولى للحرب، حيث تتوقع القيادة العسكرية أن يهاجم الجيش آلاف الأهداف في الأيام الأولى للحرب، أي أن الطيران الإسرائيلي سيحدد مسبقا أهدافا ستقصف خلال وقت قصير، "قصف جوي واسع النطاق ودقيق" كما نصت الوثيقة. تحديدا، قصف عشرات الآلاف من الأهداف في الشمال، ومئات آلاف الأهداف في غزة .
رابعاً: حاول رئيس الأركان الإستفادة من نتائج حرب 2006، معتمداً على مبدأ "التفضيل" في الإستراتيجية الجديدة، أي استخدام قوات عسكرية تعتمد على وسائل قتالية متطورة وبإمكانها التنقل من مكان إلى آخر بسرعة، بدلاً من الاعتماد على وجود قوات عسكرية في كل مكان . يحاول الجيش الإسرائيلي تطوير تكتيكاته لتتلائم مع أي مواجهة جديدة ضد حزب الله أو حماس، رغم أن القدرات الجاري تطويرها تلائم حربا ضد جيوش نظامية لدول.
خامساً: جدّدت الوثيقة الرؤية الإسرائيلية المتمثلة بإرتكاب المجازر وجرائم حرب، عبر التأكيد على ضرورة "فرض الردع على المحيط الإقليمي وضد الجهات التي يمكن أن تشكل تهديدا، على أساس حيازة قوة عظمى عسكرية وإصرار على ممارسته بكل القوة، عند الضرورة؛ إزالة التهديد بسرعة، من أجل تقليص الضرر الذي يلحق بإسرائيل وتعزيز ردعها في الحيز".
سادساً: حاولت الوثيقة ردم الفجوة المتواجدة بين القيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب، حيث تشير عقيدة إيزنكوت إلى أن "توجيهات المستوى السياسي تستلزم توضيحاً وحواراً جارياً بين المستوى العسكري الأرفع وبين المستوى السياسي من أجل إنتاج تأثيرٍ متبادل ".
في الخلاصة، حاول إيزنكوت الإستفادة من التجارب السابقة سواءً على المستوى السياسي، أي تنسيق أفضل بين الحكومة والجيش، أو على المستوى الميداني، جيش يتحرك بمرونة وليونة. كذلك يمكن القول إن الوثيقة سعت لملاءمة توقعات الجمهور الإسرائيلي لرؤية الجيش الذي تعاطى بواقعية أكبر هذه المرّة مع التحديات.