الوقت- السلطنة لا تتحرك في الفراغ. فعندما ينطلق القطار العماني يجب التطلّع إلى النافذة التي ستفتح في نهاية الطريق. فالتجربة أثبتت أنّ عمان الصامتة دائماً لا تتكلم إلاّ عند الضرورة، ومعظم الملفات التي يُطلب من مسقط التدخل لحلّها أو التوسط فيها تصل سفنها في نهاية المطاف إلى برّ الأمان. فالوساطة كلمة مرادفة لدور السلطنة التي عندما تُشغّل محركاتها تبعث برسائل مهمة تلقى صداها عند الأطراف جميعاً بأنّ الطريق قد عُبد للمفاوضات والحلول. فهل فهم الجميع الخطوة العمانية؟ ولماذا سُمح للقطار العماني أن يتحرك الآن علنياً؟ وفي ظل مشهد معقّد إقليمياً ودولياً وتشابك في الملفات والقضايا هل ستنجح مسقط في مساعيها؟ وإلى أين سيمتد شعاع تحركها؟
لا يخفى على أحد أنّ السلطنة التي تميل إلى الوسطيّة والاعتدال وعدم التطرف كما السعودية وغيرها، يعيش فيها أهلها من الإباضيّة والسُنّة والشيعة في ظل التعدُّديّة والسلام دون التقاتل، بالرغم من إحاطة بركان من النار والإرهاب بها. وكأنَّ الجميع فيها عزم على أن لا يُسجَّل اسمه في سجلّ حُرُوب المنطقة المُستعرة، بل أن عمان حُيّدت من لهيب هذه النار لأنّ دورها تاريخياً حاز ثقةً دولية وإقليمية بأنّها وسيط حلّ الخلافات بإمتياز.
فإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء يمكن لنا أن نفهم ما سرّ الفرادة والخصوصية التي تتمتع بها هذه الدولة التي أكدت على مر عقود على دورها كوسيط متكتم وفي الوقت ذاته فعال جداً. فنذكر محطات عديدة كان فيها لمسقط دور بارز ومهم في حلّ العديد من الملفات والإسهام في تقديم طروحات للحلول ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، وإنما على الصعيد الدولي أيضاً ممّا يجعلها تستقطب دول العالم من خلال دورها المحوري الوسيط. كما أنها تتمتع بمكون جغرافي وعمق تاريخي مختلف عن أغلب دول المنطقة مما جعلها دولة متماسكة ومستقرة على مدى العقود الأربع المنصرمة. إلى جانب ذلك فإن حكومة السلطنة تنحاز دوماً إلى خيار البقاء خارج دائرة الضوء عند التعامل مع الأحداث والأزمات والقضايا المشتعلة وتفضيل خيار العمل من خلف الستار.
ويمتدّ دور عمان في الوساطة ليشمل شعاعها ملفات متنوعة الأحجام ويعود إلى سنوات ماضية. فقد حافظت السلطنة تاريخيّاً على الاتصال السياسيّ مع كل الأطراف وأبقت على علاقاتها حين قرَّر العرب قطع العلاقة مع مصر على إثر زيارة السادات، وحين تحالفت الدول الخليجية مع نظام صدام حسين في حرب الخليج الأولى لم تنضمَّ إلى التحالف الخليجيّ مع العراق ضد إيران، وحين شاركت في حرب الخليج الثانية، أبقت على العلاقة مع بغداد بعد انتهاء الحرب.
وقد ساعدت مؤخراً على اطلاق قيد الرهينة الفرنسية ايزابيل بريم التي كانت مختطفة في اليمن. وفي أواخر عام 2011، لعبت سلطنة عمان الدور ذاته إذ شكلت محطة عبور لثلاثة فرنسيين عاملين في مجال حقوق الانسان بعد اطلاق سراحهم، وفي بداية يونيو ساعدت السلطنة في ترحيل صحفي امريكي احتُجز مدة اسبوعين في اليمن.
وبحسب معلومات قد عُقدت في السلطنة مباحثات غير رسمية وسرية بين الامريكيين وحركة أنصار الله للتوصل الى حل للنزاع الدائر في اليمن. وبفضل موقفها غير المتطرف، تحافظ مسقط على اتصالات مع اطراف النزاع كافة في اليمن الواقعة شرق السلطنة. ويحافظ العمانيون على اتصالات مع أنصار الله وحلفائهم، والموالين للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، إضافة إلى العلاقة المتواصلة مع حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي الامر الذي سهل جهودهم للوساطة. وخلال الحرب الاهلية اليمنية في عام 1994، كانت مسقط قد استضافت قادة جنوبيين حاولوا الانفصال عن الشمال.
وفي الجزائر كانت سلطنة عُمان قد أعلنت عن تحركات وساطة لها لإنهاء أزمة طائفية مكتومة في بلدة جزائرية تدعى "غرداية" ذات الأغلبية الإباضية، تلك الطائفة المنتشرة في السلطنة. ويفضل النظام الجزائري الدبلوماسية العُمانية بوصفها لا تنحاز لطرف من الأطراف، ودور عُمان في المشكلة الطائفية هذه في الجزائر كان إيجابياً إلى حد كبير عندما عرضت تحمل إصلاح خسائر البلدة المادية في مواجهات طائفية سابقة لنزع فتيل الأزمة.
وعندما نقف أمام الاتفاق التاريخيّ بين إيران والدول الست الكبرى نجد البصمات العمانية حاضرة أيضاً حيث استضافت السلطنة لقاءات سرية بين أمريكا والجمهورية الاسلامية الإيرانية فتحت الطريق امام المفاوضات العلنية بين طهران والدول الكبرى. فالسلطنة لا تعادي إيران، لأنها الجار الأقرب إليها، وهما يشتركان معاً بالإطلالة على مضيق هرمز أهمّ مضيق استراتيجي في المنطقة والعالم.
وتظهر سياسة الحياد الإيجابي جيداً في سوريا، إذ أن مسقط لم تقطع علاقتها بنظام الرئيس بشار الاسد بعكس الدول الخليجية الأخرى. ولا تشارك عمان في التحالف الدولي بقيادة أمريكا ضد داعش في سوريا والعراق. ولها موقف واضح من درع الجزيرة في البحرين، وترفض الحرب في اليمن. وهي الوحيدة بين دول مجلس التعاون الست التي لا تشارك في التحالف العسكري بقيادة السعودية ضد أنصار الله وحلفائهم في اليمن. وتحافظ السلطنة على علاقات جيدة مع السعودية وايران في آن واحد.
وما زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلّم إلى مسقط تلبية لدعوة نظيره العماني يوسف بن علوي إلا مشهد من الدور العماني في هذا الإطار وتعدّ زيارة المعلم لمسقط الأولى لدولة خليجية منذ قرار جامعة الدول العربيّة تعليق عضوية سوريا.
وإذا أردنا أن نحصي نتائج الدور العماني فاللائحة تطول. ولكن توقف مراقبون عند توقيت هذا التحرك وقال محلّلون إنّ توقيع الإتفاق النووي كان التحوّل الذي شغّل محركات السلطنة ودفع بها للمضي في مساعيها الحميدة. وقد أجبرت إنتصارات وصمود محور المقاومة أمريكا وحلفائها على قبول التحرك العماني لأنّ الوساطة هي الحل الوحيد الذي يقلّل الخسائر الأمريكية في المنطقة. ولكن ماذا عن حلفاء أمريكا وأدواتها؟ هل إقتنعوا بالتعقل وسلوك المسار السياسي وترك دعم الإرهاب أم أنّهم سيعرقلون جهود الوساطة العمانية؟ وفي ظل مشهد سياسي وأمني معقد ومتشابك هل فُوّضت مسقط بأكثر من ملف؟ وكيف تتقاطع هذه الجهود مع مبادرات أخرى مثل المبادرة الروسية والإيرانية والخليجية؟