الوقت- لطالما كانت تتفاخر بريطانيا بأنها مركز "الحريات الإعلامية" في العالم وأنها تسمح لجميع الآراء الموافقة والمخالفة لسياستها بأن تنطلق من أراضيها، لكن مشهد إلقاء القبض على جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، وسوقه من سفارة الإكوادور التي منحته حق اللجوء السياسي منذ 7 أعوام، يجب أن يسجل في لائحة العار، إذ وجهت بريطانيا من خلال هذا العمل صفعة قوية لحرية التعبير والقيم الغربية داخل البلاد وخارجها، وسيبقى تاريخ اعتقال أسانج - 11 أبريل 2019 – عالقاً في الذاكرة العالمية لعقود طويلة من الزمن وسيكون نقطة سوداء في تاريخ هذه الدولة.
لقد كان اعتقال جوليان أسانج بمثابة عمل انتقامي من قبل أمريكا التي تدّعي هي الأخرى أنها تدافع عن حريات التعبير في العالم، وكان واضحاً أن اعتقال الشرطة البريطانية لـ"أسانج" جاء بناءً على طلب حكومة حزب المحافظين البريطانية التي ادّعت من جانبها بخنوع أنها لم تضغط على الإكوادور لإلغاء حق اللجوء.
إليكم هذه السلسلة من المعلومات والنتيجة: جوليان أسانج ليس مواطناً أمريكياً، إنه أسترالي، وليست ويكيليكس مؤسسة إعلامية مقرها أمريكا، إذا تم تسليم الحكومة الأمريكية أسانج ، ومحاكمته وسجنه، فستضفي الشرعية على حقها في ملاحقة أي شخص، في أي مكان وفي أي وقت.
لماذا تم اعتقال أسانج ومن ساهم في ذلك؟
تقول واشنطن إن أسانج حصل على ما يقرب من 90000 تقرير يتعلق بعمليات القوات الأمريكية في أفغانستان ونحو أربعمئة ألف تقرير لعمل القوات الأمريكية في العراق، ووثائق تقييم تتعلق بثمانمئة معتقل في سجن غوانتانامو، و250 ألف برقية تابعة للخارجية الأمريكية.
وتتهمه بالحصول على تلك الوثائق عبر محلل الاستخبارات السابق برادلي مانينغ الذي أجرى عملية تحول جنسي وأصبح امرأة باسم تشلسي مانينغ، وأطلق سراحها عام 2017 بعد أن خفف الرئيس السابق باراك أوباما سجنها إلى نحو سبع سنوات من أصل 35 حكم عليها بها، حيث كان يفترض أن تنال حريتها عام 2045.
من الواضح جداً أن ملف فضح الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية أثناء احتلالها للعراق للفترة 2003 – 2011 هي أكثر القضايا التي جعلت واشنطن تطارد مؤسس ويكيليكس جوليان أسانج.
الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في العراق نشرها اسانج عبر سلسلة من الوثائق والمستندات التي حصل عليها اسانج بمساعدة تشيلسي ماننغ التي كانت تعمل محللة بيانات في المخابرات الحربية الأمريكية، وكشفت هذه الوثائق الحربية عن قتل الجيش الأمريكي مئات المدنيين دون الإبلاغ عن ذلك أثناء حرب أفغانستان.
كما كشفت وثائق تتعلق بحرب العراق عن مقتل 66 ألف مدني - أكبر من الرقم الذي أشارت إليه التقارير التي ظهرت قبل نشر وثائق ويكيليكس، كما كشف التسريبات عن تعذيب السجناء على أيدي القوات العراقية.
وتضمنت تلك الوثائق أيضاً 250 ألف رسالة من دبلوماسيين أمريكيين أشارت إلى أن الإدارة الأمريكية أرادت الحصول على معلومات "شخصية وحيوية" - من بينها بصمات الأعين، وعينات الحمض النووي، وبصمات الأصابع، عن مسؤولين مهمين في الأمم المتحدة.
بريطانيا حاولت التهرب من إلقاء المسؤولية على عاتقها وبأنها بريئة من هذا الحدث رابطة ما حصل مع أسانج بالقانون واحترام هذا القانون وأن لا أحد فوق القانون وقد صرحت بذلك رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، علانية عندما قالت: " في بريطانيا لا يوجد أحد فوق القانون"، لكن تصريحها لم يكن مقنعاً وجاء للتستر على الأسباب الحقيقية التي تقف خلف اعتقال مؤسس ويكيليكس والتي تتعلق بشكل مباشر بالفظائع التي ارتكبتها واشنطن في أفغانستان والعراق.
أما الأكوادور فقد كانت الحامي والجاني في نفس الوقت، فبينما استقبلت سفارة الإكوادور في لندن جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، ومنحته حق اللجوء عندما كان رافائيل كوريا رئيساً للبلاد، وكان هذا الرئيس يأخذ خطاً اشتراكياً مقاوماً، لكن خلفه لينين مورينو الذي تولى حكم البلاد في العام 2017 لم يكن يحمل نفس النهج الذي سار عليه سلفه كوريا واتجه في سياسته نحو أمريكا وتقرب منها وحاول كسب رضى البيت الأبيض وما رفعه للحصانة عن اسانج سوى خير دليل على السياسة التي يتبعها.
في هذا السياق، جاء قرار لينين برفع الغطاء السياسي عن أسانج -الذي تريد أمريكا جلبه لأراضيها لمحاكمته- ووجهت له تهماً غليظة لها علاقة بأمن البلاد، بسبب ويكيليكس ومئات آلاف الوثائق التي نشرها.
الرئيس السابق رافائيل كوريا اتهم نائبه السابق والرئيس الحالي -الذي يحمل اسم قائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي لينين- بأنه "أكبر خائن في تاريخ إكوادور وأمريكا اللاتينية" بحسب ما أوردته صحيفة لوموند الفرنسية.
كما وصف قراره برفع الحصانة عن أسانج وتسليمه للبريطانيين بأنه "أكثر القرارات خسة في التاريخ" وبأنه "جريمة لن تنساها الإنسانية" تضيف الصحيفة الفرنسية المعروفة.
لكن مورينو شرح في قراره يوم 11 من الشهر الحالي أن تسليم أسانج سببه "سلوكه غير المحترم والعنيف" والذي خلق "وضعية لا يمكن تحملها"، واتهم مورينو أسانج كذلك بـ "خرق الاتفاقات الدولية" وبجلب تجهيزات غير مصرّح بها لمقر السفارة، إلى جانب الاعتداء على موظفين بالسفارة.
بالمحصلة يمكن القول أن الكرة الآن في ملعب بريطانيا ومن المؤكد ان أسانج سيبقى في السجن لعدة أشهر قادمة ولكن ما إذا كان سيتم تسليمه لأمريكا أم لا، تيرزا ماي أجدر بالإجابة عن هذا السؤال.