الوقت-منذ التسعينات، كانت العقوبات الاقتصادية واحدة من أهم الأدوات التي تعتمدها القوى الغربية والعالمية من أجل الضغط على منافسيهم لدفعهم للانخراط في عجلة تحقيق أهدافهم ومصالحهم الاستراتيجية، وبالرغم من أنّ العقوبات قد تخلق عِداءً بين الدول إلا أنها تعتبر مناورة قوية من الناحية النظرية حيث إن تكلفتها أقل بكثير من العمليات العسكرية والاستخباراتية وحتى السياسية منها، ومنذ عام 2014، شهدنا تحوّلاً رئيساً في طريقة تطبيق العقوبات، فبعد الأزمة الأوكرانية، رأينا وللمرة الأولى أن العقوبات ضدّ الاتحاد الروسي قد اُتخذت عمداً وهيكلياً لإلحاق الضرر بموسكو، بيد أن هذه الخطوة أدّت إلى اتخاذ روسيا سلسلة من الإجراءات المضادّة الجديدة لحماية اقتصادها من الآثار المترتبة على هذه العقوبات. وقبل ذلك كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تقف في وجه شتى أنواع العقوبات.
آليات مكافحة العقوبات الأمريكية في روسيا
تعتبر روسيا من أقوى الدول في العالم وقد تعرّضت في السنوات الأخيرة إلى عدد كبير من العقوبات الأمريكية والغربية، بيد أن القدرات السياسية، العسكرية والاقتصادية لروسيا، على ما يبدو، كانت كفيلة بمقاومة العقوبات والحدّ من آثارها، وعلى الرغم من أن قدرة روسيا الاقتصادية محدودة ولا تسمح نقاط ضعفها الاقتصادية بالمنافسة مع الاقتصادات الغربية القوية، لكن المزايا النسبية التي تتمتع بها موسكو في المجالات السياسية والأمنية الاستراتيجية قد أعطتها قوة مقاومة خاصة.
وتعتمد الإجراءات الروسية ضد العقوبات على خمسة أسس وهي:
1-تطبيق سياسة "التطلّع إلى الشرق"
كان أول تحرّك لروسيا في مواجهة العقوبات هو إجراؤها تغييراً في استراتيجياتها الرئيسية الخارجية، الاقتصادية والأمنية، حيث بدأ العمل بهذه الاستراتيجية، والتي تحمل عنوان "نظرة إلى الشرق" منذ عام 2014. فبدلاً من صرف الطاقة والمال في سبيل إقناع الغرب بضرورة وقف العقوبات، قام الروس باعتماد سياسة الهجوم بالرغم من المخاطر التي يمكن أن تلحق بمصالحها الوطنية وقد يؤدي بها إلى عزلة دولية، على أي حال، كان "المنتدى الاقتصادي للشرق" الذي عقد في فلاديفوستوك في عام 2016 هو أول وأهم مؤتمر يبرز النظرة الخارجية الروسية نحو الشرق، حيث شارك في المنتدى ممثلون من 56 دولة شرقية، أبرزها اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وكان لافتاً للنظر وجود بعض الدول الغربية ألمانيا وفرنسا.
2- بناء المؤسسات الاقتصادية العالمية
النقطة الثانية التي اعتمدها الروس في محاربتهم للعقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية هو بناء اقتصاد عالمي مقاوم في مواجهة العقوبات الحالية للغرب، فمن الطبيعي أن تؤدي الروابط الاقتصادية المتزايدة بين المؤسسات الإقليمية الدولية إلى تقليل الاعتماد على الغرب وجعل العقوبات غير مؤثرة، ومن أهم الأعمال التي قام بها الروس في هذا الصدد هو بناؤهم للاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي في عام 2014، حيث شكّل الروس، مع بيلاروسيا وكازاخستان، هذا التحالف الاقتصادي لتسهيل التجارة فيما بينهم، وإزالة الحواجز من أمامها، والحدّ من الاعتماد على الاقتصاد الغربي، وتشكيل كتلة اقتصادية لمواجهة السياسات الاقتصادية الغربية المعادية.
3-تشكيل سياسة دولية ضدّ العقوبات الدولية
إن المزايا السياسية التي تتمتع بها روسيا في الساحة الدولية تسمح لها ببساطة أن تقيم - على أساس القواسم المشتركة - مختلف التحالفات والجمعيات الدولية، وفيما يتعلق بالعقوبات الأخيرة، رأينا أن روسيا قد قامت بعقد سلسلة من الشراكات الدولية مع بعض الدول التي تعرّضت لهذه الضغوط والعقوبات، حتى أن بعض الدول التي من المقرّر أن تتعرض لهذه العقوبات قامت بالتقرب من روسيا، وعقدت معها اتفاقيات من أجل مواجهة أي عقوبات محتملة عليها في المستقبل، وفي هذا الصدد، شرعت روسيا بتبادل الخبرات والإجراءات المبتكرة لمواجهة العقوبات الغربية مع هذه الدول التي كان من بينها الجمهورية الإسلامية في إيران.
4-التعامل بالمثل في مسألة العقوبات
إجراء آخر اعتمده الروس لمواجهة العقوبات الغربية وهو التعامل بالمثل، لا شكّ أن قدرة روسيا على مواجهة الغرب محدودة للغاية، لكن العامل النفسي الناتج عن هذه المواجهة، وإن كان محدوداً، يمكنه شحن روح القتال والمنافسة عند الروس. وفي هذا الصدد، وضع الروس العديد من المسؤولين الغربيين على قائمة عقوباتهم، وقطعوا تعاونهم مع العديد من الشركات الغربية، ووضعوا العديد من العقبات أمام التجارة المباشرة مع التجار الغربيين، وقاموا بإلغاء الإعفاءات والامتيازات التي كانت تتمتع بها التجارة الغربية سابقاً في روسيا، ومثال على ذلك قام الروس في أعقاب التهديدات الأوروبية في مجال الطاقة، بوقف بيع 120 محركاً من محركات TDR وإلغاء التعاون في محطة الفضاء الدولية.
5- الفاتورة المرتفعة للتعاون الأوروبي مع أمريكا في مسألة العقوبات الروسية
كانت إحدى الابتكارات الروسية من أجل مواجهة العقوبات الغربية هي زيادة التكاليف السياسية والاقتصادية للعمل مع أمريكا في مقاطعة روسيا، وفي هذا الصدد عمل الرئيس الروسي بوتين على تهديد البلدان الأوروبية بالآثار السلبية المترتبة على مجاراة أمريكا في عقوباتها على روسيا، ويمكن ربط هذا الأمر بمحادثات بوتين مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الأخيرة حيث دفعت ألمانيا إلى الاهتمام بفرض العقوبات على الشركات المشاركة في مشروع نقل الغاز بين ألمانيا وروسيا إلى مناقشة الوضع في أوكرانيا، وقضية سكريبال، والعقوبات الأمريكية.