الوقت - بعد طي صفحة تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق بدأت القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتفكير في إبعاد شبح التهديدات التي قد تنجم عن هذا التحول الاستراتيجي عن أراضيها من جهة، والسعي لتحقيق مصالحها وتثبيت أمنها من جهة أخرى.
ومن الدول الإقليمية التي أبدت قلقها بوضوح من هذه التطورات هي تركيا التي تربطها مع سوريا حدود تصل إلى أكثر من 900 كيلومتر، خصوصاً وان الأكراد السوريين المنضوين تحت حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG) يسعون لإقامة حكم ذاتي في مناطقهم، وهو ما تخشاه أنقرة باعتباره قد يمهد الأرضية لإقامة منطقة مماثلة داخل حدودها إذا تمكن حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تربطه علاقات قوية مع (PYD) من ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن أكراد سوريا يسيطرون في الوقت الحاضر على نحو 70 - 80 بالمئة من المناطق المحاذية لتركيا خصوصاً في مقاطعات (عفرين) و(كوباني) و(الجزيرة).
وعلى الرغم من مساعي تركيا لتقليص نفوذ أكراد سوريا، كما حصل خلال عمليات "درع الفرات" إلّا أن هذه المساعي قد أخفقت إلى حدّ ملموس بسبب دعم أمريكا وحلفائها في الناتو للجانب الكردي.
وطيلة العامين الماضيين تمكن أكراد سوريا من تحقيق انتصارات واضحة والسيطرة على مدن مهمة في شمال وشمال شرق سوريا من بينها (تل أبيض) و(الرقّة) و(منبج) ومناطق في (دير الزور) الغنيّة بالنفط.
وفي ظل هذه التطورات تخشى تركيا من أمرين أساسيين:
الأول: امتلاك أكراد سوريا لأسلحة متطورة زوّدتهم بها أمريكا، وهذا الأمر من شأنه أن يمكّن الأكراد من إعلان "منطقة الحكم الذاتي" قرب الحدود الجنوبية لتركيا، وهو ما تخشاه أنقرة كما ذكرنا آنفاً، لأنه قد يمهد الأرضية لتشكيل منطقة مماثلة داخل الأراضي التركية.
الثاني: تخشى تركيا من تطور علاقات أمريكا مع حزب العمال الكردستاني، ولهذا تبدو أنقرة قلقة جداً من إمكانية تجهيز واشنطن للـ (PKK) بالأسلحة المتطورة كما فعلت مع أكراد سوريا.
وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها واشنطن لأنقرة بوقف دعم أكراد سوريا أو الحدّ من هذا الدعم، إلّا أن المسؤولين الأتراك لازالوا قلقين إزاء إمكانية تنفيذ هذه الوعود وترجمتها على أرض الواقع، وهو ما أكده وزير الخارجية التركي (مولود جاويش أوغلو).
والسؤال المطروح: ما هي أهداف واشنطن من السياسة المزدوجة تجاه الأكراد وتركيا، التي تنتهجها في شمال سوريا؟
الإجابة عن هذا التساؤل تكمن بتسليط الضوء على ما يلي:
مواصلة الدعم الأمريكي (العسكري والمالي) للأكراد
تعتقد واشنطن بأن الأكراد يمثلون في الحقيقة قوة ضاربة على الأرض يمكنها من خلالهم تنفيذ مشاريعها الاستراتيجية في سوريا، خصوصاً في مناطقها الشمالية، ليس هذا فحسب؛ بل يمكن اعتبار الأكراد الحلقة الأهم في المشروع الأمريكي تجاه الأزمة السورية في الوقت الحاضر، لاسيّما فيما يتعلق بالتطورات الميدانية. وهذا يعني بالضرورة أن أمريكا ستواصل دعمها التسليحي والمالي للأكراد لتحقيق هذا الغرض.
توظيف الورقة الكردية للضغط على تركيا
تسعى أمريكا دون أدنى شك لتوظيف الورقة الكردية في شمال سوريا للضغط على تركيا من أجل إرغامها على مسايرة مشاريعها الاستراتيجية في المنطقة من جهة، وحثّها على الابتعاد عن محور إيران - روسيا من جهة أخرى.
وعود ترامب وردود فعل أردوغان
يعتقد المراقبون بأن الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) لايثق إطلاقاً بوعود نظيره الأمريكي (دونالد ترامب) خصوصاً فيما يتعلق بأكراد سوريا والدعم التسليحي والمالي الذي تقدمه واشنطن لهم. ومن هنا يبدو من المستبعد جداً أن تعود المياه إلى مجاريها بين واشنطن وأنقرة حيال هذا الموضوع نظراً لوجود خلافات جوهرية بين الجانبين بهذا الخصوص.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن أمريكا لازالت تواصل إرسال الأسلحة إلى أكراد سوريا - وهو ما أكده الكثير من المصادر الغربية- على الرغم من الوعود التي قطعتها لتركيا بوقف هذا الدعم أو الحد منه، لاعتقادها بأن تقوية الأكراد سيوفر لها إمكانية تنفيذ مخططها في شمال سوريا، حتى وإن أدى ذلك إلى إثارة حفيظة أنقرة التي تخشى من توسع نفوذ الأكراد كما أسلفنا.
خلاصة يمكن القول بأن مراهنة تركيا على وعود واشنطن في قطع دعمها لأكراد سوريا لن تجد لها مصداقية على أرض الواقع، خصوصاً وإن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب تبدو عازمة على مواصلة دعم الأكراد تماشياً مع مشروعها الرامي إلى تقسيم سوريا عبر إقامة "منطقة حكم ذاتي" للأكراد، حتى وإن أدى ذلك إلى إثارة قلق أنقرة، لأن واشنطن تسعى في الأساس للضغط على الجانب التركي لإرغامه للعودة إلى الحضن الأمريكي من ناحية، وحثّه، من ناحية ثانية، على الابتعاد عن المحور الإيراني - الروسي الذي تمكن من إقناع تركيا بالدخول في مفاوضات سياسية لتسوية الأزمة السورية.