الوقت- تشكل السياسة البراغماتية التي تتعاطى من خلالها أمريكا، محطةً يجب الوقوف عندها لتحليل حقائق سياسات واشنطن تجاه الشعوب. فأمريكا تشرعن لنفسها ما تريد، كما يخدم مصلحتها، بعيداً عن المبادئ في التعاطي السياسي. بل وكما يشير المراقبون، لأمريكا مبدأٌ واحدٌ تنسج سياساتها لخدمته وهو: مبدأ المصلحة الأمريكية. وهنا يأتي الحديث عن السياسة الأمريكية الجديدة في التعاطي مع إرهاب تنظيم جبهة النصرة، ومحاولة إلباسها لباس المعارضة المعتدلة، لتهيئة الأرضية للترويج لما تسعى له في المستقبل. وهو الأسلوب الذي استخدمته أمريكا في تعاطيها مع إسقاط النظام السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي والذي عرف بسيناريو الكونترا. فما هو هذا السيناريو؟ وكيف تحاول واشنطن بمشاركة السعودية وقطر وتركيا، تطبيقه في سوريا؟
أولاً: سيناريو الكونترا:
سيناريو الكونترا أو عصابة الكونترا(Nicaraguan Contras) هو سيناريو لميليشليا مسلحة أنشأتها وكالة الإستخبارات الأمريكية في دولة نيكارغوا، من أجل إسقاط الحكومة اليسارية الموالية لما عُرف بالإتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي. وتورطت هذه الميليشيا، في عشرات الجرائم ضد المدنيين هناك. لكن البيت الأبيض اختلق لهذه الجرائم والتي كانت وظيفة هذه العصابة، مصطلحاً عسكرياً جديداً في قاموس الأدبيات السياسية حينها، وهو ضرب "الأهداف الهشة". وقد عملت أمريكا على الترويج لهذه الفكرة عبر تمريرها في الإعلام ولتكون سهلة التناول لدى الرأي العام. فيما كانت الأهداف الهشة، المدارس والمستشفيات وغيرها من الأماكن التي يشكل التخلص منها ضغطاً على الحكومة لإسقاطها آنذاك. فكيف تحاول أمريكا ومن خلال حلفائها الخليجيين الى جانب تركيا، تطبيق هذا السيناريو في سوريا؟
هذا السيناريو أعادت أمريكا استخدامه في سوريا، من خلال إطلاق تسمية "المعارضة المعتدلة" على إرهابيي جبهة النصرة. وليس صدفةً أو بعيداً عن غرف العمليات الأمنية، بثت قناة "الجزيرة" القطرية وهي الواجهة الإعلامية والسياسية لهذه الجماعات، مقابلة لأبي محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة الإرهابية، ليعلن للتحالف الغربي بقيادة واشنطن، بأنه لا ينوي مهاجمة الغرب مثل تنظيم داعش الإرهابي، ولا يريد إعلان الخلافة الإسلامية، بل إن هدفه الأساسي هو إسقاط نظام بشار الأسد. وهو الأمر الذي يقول مراقبون إنه يقع في خانةٍ هدفت أمريكا إبقاءها منذ البداية، أي محاولة تمييز دور تنظيم جبهة النصرة الإرهابي عبر تقديمه بأنه بعيد عن أداء تنظيم داعش. فيما يعرف الجميع أنها أي النصرة، فرع القاعدة في سوريا. ولعل الأمر الذي يجعل أمريكا والدول الخليجية الأساسية أي السعودية وقطر الى جانب تركيا، تروج لفكرة أن النصرة تعبر عن "المعارضة المعتدلة"، هو عدم وجود نفس الإنطباع السيء لها كتنظيم داعش، لدى الرأي العام، الى جانب أنها قد تكون مضبوطة الإدارة أكثر. وبالتالي فيمكن الرهان عليها أكثر في الوقت الحالي بنظر المخطط الأمريكي. لكن الحقائق تقول عكس ذلك.
ثانياً: بعض الحقائق وتحليلها:
ليس صحيحاً ما يتم الحديث عنه أن الدوائر الرسمية وغير الرسمية الغربية تعمل من أجل عدم إسقاط أنظمة الدول في المنطقة. بل على العكس، فإن أمريكا وعبر أدواتها الخليجيين، تحاول إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية من جديد في المنطقة، وبالتحديد في هذه المرحلة التي تعتبر انتقالية بإمتياز. وليس مهماً بالنسبة لواشنطن كم هي عدد الدويلات التي ستتشكل، بل المهم إستنزاف محور المقاومة بقيادة إيران، الى جانب تقويض النفوذ الروسي في المنطقة. ولذلك فإن أخطر ما تعمل عليه أمريكا مع السعودية وقطر الى جانب تركيا صاحبة الأرض والميدان الذي يبدأ منه الإرهاب بالإنطلاق، هو تعميق الخلافات الطائفية سواء سنية أو شيعية، والتي بدأت تحل محل مفهوم الأمة العربية. وهو الأمر الذي سيؤدي الى إيجاد شرخٍ تسعى أمريكا لترسيخه، من أجل تغيير عناوين الإرهاب، فيما يسعون الى إسقاطه على المذاهب من أجل تأجيج الصراع.
وما يفضح الدور التركي وأهميته في الإستراتيجية الجديدة، هو الدعم المتنامي لجبهة النصرة واحرار الشام، وتحت عنوان جديد وهو جيش الفتح ومساعدته بكافة الإمكانات مما ساهم في قيامه بإحتلال مساحات واسعة ومحاولته التوجه للعاصمة دمشق والمدن الساحلية. لذلك وبالتوازي مع إعلان أمريكا وتركيا عن الإنتهاء من إعداد خطط وبرامج تدريب الإرهابيين التكفيريين في سوريا وإطلاق تسمية "المعارضة المعتدلة" عليهم، ظهر عددٌ من زعماء هذه المجموعات التكفيرية بضيافة أجهزة المخابرات التركية في أنقرة وغرفها العملياتية على الحدود مع سوريا. وهو الأمر الذي أشارت إليه وسائل إعلام تركية معارضة، وفسرته على أنه محاولة لإعادة توحيد الجهد الإرهابي لهذه التنظيمات تحت قيادة مشتركة تركية سعودية قطرية أمريكية بعدما فشلت طوال المدة الماضية في تغيير معادلة السيطرة على الأرض لصالحها رغم الدعم الكبير الذي تتلقاه.
وبالتالي فإن التعاون القديم مبدئياً والجديد ظرفياً بين أمريكا وهذه الدول، هو محاولةٌ لتقاسم مواطن القوة لدى هذه الأطراف. فتركيا تدعم عبر الميدان، والسعودية وقطر تساهمان بالإعلام والترويج الى جانب الدعم الأيديولوجي والمالي، فيما تقدم أمريكا السلاح والتوجيه الإستشاري. وكل ذلك من أجل التعويض عن الخسارة التي لحقت بهذه الأطراف في سوريا. وهنا يأتي السؤال الأهم: هل أصبح العالم يرى وبوضوح نماذج الإعتدال الأمريكية الجديدة؟