الوقت- بعد أن وصف دونالد ترامب الاتفاق النووي مع إيران بأنه الأسوأ وهدّد مرارا خلال حملته الانتخابية بتمزيقه يبدو أنه وصل إلى نتيجة مهمة تقول أن أي انسحاب من هذا الاتفاق من جانب واحد سيؤدي لأضرار سياسية ودبلوماسية كبيرة على الحيثية الأمريكية في العالم. والسبب أن كبرى الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاق ترفض أي مساس به وتعتبره وثيقة دولية لا يمكن تخطيها ويجب احترامها.
هذا الأمر ألزم ترامب بالعودة عن تصريحاته السابقة والتفتيش عن سبل جديدة للنكث بهذا الاتفاق، وهذا ما سنعالجه في معرض مقالنا هذا، حيث سنركز على موضوع السؤال الأمريكي الذي وجهته مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة للوكالة الدولية للطاقة النووية عما إذا كان هناك إمكانية لتفتيش المواقع العسكرية الإيرانية في إطار الاتفاق النووي.
طبعا من الواضح أن خطة ترامب للالتفاف على الاتفاق هي ترقب أي خطوة إيرانية يمكن تجييرها في سياق عدم الالتزام بالاتفاق، وبالفعل فقد صدرت تصريحات كثيرة عن مسؤولين أمريكيين تتهم طهران بعدم احترام روح الاتفاق تمهيدا لخطوات أخرى تدخل في نفس السياق بهدف الضغط على طهران عسى تبادر لنقض الاتفاق فتفتح بذلك الباب لواشنطن للخروج منه والانقلاب عليه بشكل كامل.
وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي لم تتوانى في الدفاع عن الاتفاق النووي، مؤكدة في أكثر من محفل رسمي أن الاتفاق ليس بين إيران وأمريكا لتتمكن الأخيرة من الخروج منه بمفردها، بل هناك أطراف أخرى في الاتفاق بينها دول أوروبية ملتزمة وستسعى لتنفيذ تعهداتها بمعزل عن الأمريكيين. هذا الأمر أوصل رسالة واضحة لترامب تقول أن أي إخلال في الاتفاق سيؤدي إلى مواجهة أمريكية أوروبية كما أنه سيمنع أي تعاون بين الطرفين (أي أمريكا وأوروبا) مستقبليا.
هذا الأمر وبعد أن فهمه ترامب وفريقه، جعلهم ملزمين بالتفتيش عن سبل جديدة لجعل الإيرانيين يظهرون بمظهر المقصر والناقض للاتفاق (جسما بعد روح).
أمريكا تسعى اليوم أن تظهر إيران مقصرة وغير ملتزمة بالاتفاق عبر المنظمة الدولية للطاقة النووية التي أكدت مرارا التزام طهران بكل ما طلب منها (آخر 8 تقارير للوكالة أكدت التزام إيران ببنود الاتفاق). السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا اختارت أمريكا هذه الوكالة وكيف ستؤثر على قرارها؟
لماذا؟ لأن الوكالة الدولية هي طرف أساسي في الاتفاق النووي، وبالتالي فإن تأثيرها على استمرار الاتفاق أو عدمه كبير جدا، والمجتمع الدولي يعتمد على تقاريرها لتأييد التزام طهران بالاتفاق. والتجربة تؤكد أن هذه المنظمة قدمت تقارير غير دقيقة في أوقات سابقة عن أنشطة نووية لبعض الدول تبين لاحقا عدم دقتها.
أما كيف؟ هنا بيت القصيد. حيث بدأت اللعبة الأمريكية تتكشف يوما بعد آخر. "نيكي هيلي" مندوبة أمريكا لدى الأمم المتحدة وخلال سفرها الأخير إلى فيينا جعلت الصورة أوضح. فهي توجهت إلى مقر الوكالة لتسأل عن إمكانية تفتيش المواقع العسكرية الإيرانية بهدف التأكد من التزام طهران بالاتفاق النووي.
مهمة هيلي وصفتها نفسها بأنها مهمة استقصائية لتبيين الحقائق وتأتي في سياق المراجعة التي يجريها ترامب للاتفاق الذي توصل إليه سلفه (أوباما) مع إيران. هيلي وفي مقابلة لها مع وكالة رويترز قالت ما فحواه أن إيران تسترت في الماضي على أنشطتها في المواقع العسكرية والجامعات وأشياء من هذا القبيل. لتضيف هيلي هل ستقوم الوكالة بضم هذه المواقع إلى جملة المواقع التي سيتم تفحصها للتأكد من عدم وجود مشكلات؟.
هذا الكلام يأتي ضمن سياسة رمي الكرة في الملعب الإيراني، والهدف أن ترفض طهران هذا الطلب في حال طلبته الوكالة الدولية للطاقة النووية، وبذلك ستعمل الأبواق السياسية والإعلامية الأمريكية مجددا لتشير إلى التقصير وعدم التعاون الإيراني.
إذا تريد أمريكا من هذه الخطوة أن تبرهن للغرب وخاصة الأوروبيين أن إيران ليست ملتزمة بالاتفاق ولا زالت تشكل خطرا حسب رأيهم على السلام العالمي. وبذلك وحسب التكتيك الأمريكي تخرج أمريكا من كونها الطرف الناقد للاتفاق لتصبح إيران هي المتهمة. وبذلك تتحاشى السخط الأوروبي المتزايد ضد السياسة الأمريكية على أمل أن تتعاون أوروبا وخاصة الدول العضو في مجلس الأمن من أجل إعادة العقوبات على طهران مجددا.
هذا التكتيك المفضوح والواضح تسلكه أمريكا بالتوازي مع سياسة التهويل ببعض الملفات العسكرية التي تخص طهران ومنها موضوع التكنولوجيا الصاروخية التي تمتلكها طهران وتعتبرها حقا وطنيا مكتسبا لحماية أرضها من أي عدوان خارجي.
ختاما، وانطلاقا من المعرفة المسبقة بطريقة إدارة اللعبة السياسية عالميا يبدو أنه من الصعب جدا وفي هذه المرحلة بالذات أن تنجح أمريكا في مساعيها، ولأسباب كثيرة منها الاتفاقات الاقتصادية التي وقعتها كبريات الشركات الأوروبية مع شركات إيرانية إضافة إلى حالة الفوضى السياسية (إن صح التعبير) التي تعم العالم خاصة بعد قدوم ترامب، والسعي الأوروبي للخروج من العباءة الأمريكية التي لم تكسبهم سوى التبعية العمياء لسياسات العم سام. ناهيك عن وجود قوى دولية كروسيا والصين تمانع بشكل كامل أي توجهات أمريكية للتوتير مع إيران وغيرها من الدول.