الوقت- يظهر جلياً اليوم، حجم التطبيع في العلاقات بين دول المنطقة والكيان الإسرائيلي. فيما ظهر الى العلن، علاقاتٌ كانت سرية، أخرجتها تطورات المنطقة، لتصبح أولوية لدى أطرافها. خصوصاً ما يتعلق بالتعاون الإسرائيلي الخليجي لا سيما السعودي، الى جانب خيارات مصر الحالية. فيما يُعتبر التوجه التركي، تطوراً في العلاقة مع الكيان الإسرائيلي. لكن السؤال الذي يُطرح، يتعلق بالسياسة التي اتبعتها واشنطن، من أجل الوصول الى واقعٍ يفرض الكيان الإسرائيلي كمرجعية لحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط. فكيف يمكن تبيين ذلك؟
قراءة في المنعطف الأمريكي
من خلال مراجعة السياسة الدولية لواشنطن، يمكن الإلتفات لعددٍ من الأمور نسردها بالتالی:
- منذ أن قررت أمريكا التوجه الى جنوب شرق آسيا، وذلك لبناء مصالحها الإستراتيجية، لا سيما بعد أن بات التنين الصيني بطور السيطرة على المنطقة هناك، الى جانب تسارعٍ في التطور العسكري لكوريا الشمالية، الأمر الذي بات يُهدِّد الأمن القومي الإستراتيجي لواشنطن. وهو ما دفع أمريكا للتفكير في إحالة ملفاتها، للكيان الإسرائيلي، وجعله مرجعية الأطراف التي تُعتبر حليفة واشنطن، بعد أن كان الكيان، محور سياسة واشنطن المركزية في الشرق الأوسط.
- وهنا فإن، التوجه الأمريكي للتفاوض مع إيران، كان إعترافاً واضحاً بالدور والنفوذ الإيراني في المنطقة. فيما سعت أمريكا لتغيير قواعد الإرتباط في المنطقة، عبر إغراق الدول في حروب داخلية، وذلك لإضعاف محور المقاومة الذي تتزعمه إيران، عبر إلهاء الشعوب بصراعاتٍ داخلية، تُبعد العين عن الصراع العربي الإسرائيلي. وهو ما أفضى لما سُمي بالربيع العربي، والذي ما تزال الشعوب اليوم تعاني من ارتداداته. فيما شكَّلت الحرب السورية، مرحلةً من التحول النوعي، في محاولة إبعاد الخطر عن الكيان الإسرائيلي.
- لكن تغيُّر قواعد الميدان السوري، جعل الطرف الأمريكي، يؤمن بأن الأطراف العربية الخليجية، لا سيما السعودية وقطر، وكذلك الطرف التركي، يفتقدون للقدرة على التعاون المُوجه لخدمة المصالح الأمريكية. فما كان من أمريكا، إلا أن اتخذت قراراً بدعم السعودية في العدوان على الشعب اليمني. وحشدت أغلب الدول العربية نفسها للمشاركة في المستنقع اليمني. فأغرقت كافة إمكاناتها، العسكرية والمالية. فيما دفع الشعب اليمني الثمن، وأصبح الكيان الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، بعيدة عن التداول الرسمي العربي.
كيف هيأت أمريكا الأرضية لذلك؟
لم يكن إعلان "جون كيري" عام 2013، وقوله لـ "سيرغي لافروف" أن أمريكا قررت تعديل سياساتها في الشرق الأوسط، كلاماً سياسياً. بل كان توجهاً أمريكياً، لا يعني التراجع عن أهمية المصالح الإستراتيجية لأمريكا، بل كان محاولة لتعديل السياسة، عبر الإنتقال من إدارة أسباب الأزمات الى إدارة نتائج الأزمات، مع إعطاء الكيان الإسرائيلي دوراً أكبر. فكيف فعلت واشنطن ذلك؟
أولاً: هيأت أمريكا الذهنيات العربية لا سيما الخليجية، بالحديث عن المد الشيعي وتخويف الأنظمة العربية من تعاظم الدور الإيراني. وهو ما استطاعت ترسيخه كفكرة، لكنها لم تستطع إقناع الجميع به لا سيما الشعوب، والتي لمست من سياسة إيران الدولية، إحتراماً لخيارات الشعوب، الأمر الذي أثبتته الأحداث في سوريا والعراق واليمن. فيما كان الهدف من ذلك، خدمة الكيان الإسرائيلي، عبر تحييد الصراع العربي الإسرائيلي، وخلق صراع قومي، لم ينجح. لكن الأنظمة العربية المتخاذلة، ما تزال تُراهن عليه، خدمةً لمصالحها.
ثانياً: قامت واشنطن بخلق عدو جديد للأمة الإسلامية، يحمل الإسلام كشعار، وهو تنظيم داعش الإرهابي. فيما لم تكن هذه الأيديولوجية جديدة، بل كانت استمراراً للفكر الوهابي الذي أنتجته الرياض بدعمٍ من بريطانيا والغرب، فأثمر تنظيم القاعدة سابقاً. ولكي تُفلح في خداع الشعوب، جعلت أطرافاً عربية، تدعم هذا الخيار، تحت حجة دعم الديمقراطية وخيارات الشعوب. مُعتمدةً على محورٍ أسمته وروَّجت له تحت مُسمى الدول المُعتدلة، وهي ما تزال تستخدم ذلك في اختيارها وحكمها على الأطراف السياسية في المنطقة.
ثالثاً: بعد أن رسخت الإرهاب كواقعٍ أزاح الصراع العربي الإسرائيلي من واجهة القضايا الدولية، قامت بإنشاء حلفٍ يضم 40 دولة، لتساهم في خلقٍ واقعٍ يُحارب الإرهاب، ضمن إزدواجية في المعايير، خصوصاً في توصيف الإرهاب ومحاكمته. وهو ما أثبتته أحداث العراق وسوريا بالتحديد. فأضحى الإرهاب وكما نرى اليوم، مُبرِّر واشنطن تجاه فرض أي سياسة.
رابعاً: لتعميق الشرخ داخل العالم الإسلامي، سعت أمريكا لتقسيم الواقع السياسي على أساسٍ مذهبي و طائفي. فيما خرجت أبواق الفتنة، لتتحدث عن محور شيعيٍ تُديره إيران وحزب الله، مقابل محورٍ سنيٍ، تُديره الرياض. مع الإلتفات الى أن هذه المصطلحات، تُعبِّر عن التوجه الأمريكي الذي لا نجد فيه أي واقعية. خصوصاً أن أمريكا تعرف حقيقة أن الصراع سياسي بإمتياز، بين محور مقاومة ومحور إستكبار. الأمر الذي لا يضع إيران ومحور المقاومة، مقابل السعودية ومن معها، بل مقابل أمريكا وكل حلفائها.
مخطئٌ من يظن أن كلام الدبلوماسي الأمريكي السابق دينيس روس، والذي نشره موقع معهد واشنطن، بأن معظم الأنظمة العربية في الشرق الأوسط، ترى في الكيان الإسرائيلي حصناً منيعاً لهم ضد ايران و يتعاملون في السر خوفاً من حساسية الموضوع مع شعوبهم، كلاماً بعيداً عن الواقعية. فيما ساهمت السياسة الأمريكية، في نقل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، من علاقةٍ سرية، الى علاقة علنية، وصولاً الى التغني بها اليوم من قبل بعض الدول، والتي باتت تجد في ذلك، خدمةً للقضية الفلسطينية، ومحاولةً لرفع مستوى التعاون الإقتصادي. حيث نجد أن الأزمات التي غرقت بها الدول الخليجية بسبب الحروب، وتراجع سعر النفط، باتت مُبرراً لهم للتوجه نحو التعاون الإقتصادي والتجاري مع تل أبيب. لنقول أن معركة هذه الأنظمة، هي معركةٌ لبقائهم، يخوضونها ضد شعوبهم التي تدعم الخيار العربي القومي في الصراع مع العدو الوحيد للأمة وهو الكيان الإسرائيلي.