الوقت - تعود العلاقات بين القارة الأوروبية ومنطقة الشرق الأوسط الى قرون متمادية من الزمن. وشهدت هذه العلاقات أحداثاً وتطورات كثيرة وكبيرة سواء على مستوى الحروب والنزاعات التي نشبت بين الطرفين طيلة تلك المدة أو على صعيد العلاقات الإقتصادية والتجارية والثقافية والسياسية بين دول الجانبين.
وبعد إنهيار الدولة العثمانية عام 1922 والذي أعقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) أمام عدد من الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا سارعت هذه الدول الى تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط على غرار إتفاقية "سايكس بيكو" بهدف السيطرة على المواقع الإستراتيجية في المنطقة والهيمنة على ثروات دولها والتحكم بمصيرها.
وبعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) إنحسر النفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط لصالح الوجود الأمريكي، ولكن هذا لايعني إطلاقاً أنّ هذه المنطقة لم تعد مهمة للدول الأوروبية؛ فهي من جانب تمثل بالنسبة لها سوقاً إستهلاكية لتصريف بضائعها، بالإضافة الى التأثيرات المباشرة لتطورات المنطقة على أمنها وإستقرارها، الى جانب التنافس الشديد بينها وبين الدول الأخرى لاسيّما الكبرى للإستحواذ على ثروات هذه المنطقة.
وهناك تحديات عديدة تواجه الدول الأوروبية في الشرق الأوسط يمكن الإشارة إليها بشكل إجمالي على النحو التالي:
1 – المخاطر الأمنية التي تهدد هذه الدول جراء العمليات الإرهابية التي تنفذها التنظيمات المتطرفة لاسيّما "داعش" بين الحين والآخر في هذه الدول كما حصل في فرنسا قبل نحو شهرين والتي أودت بحياة الكثير من الأشخاص، وما رافقها من تهديدات لعدد من الدول الأوروبية الأخرى بينها إيطاليا. ويعتقد أغلب المراقبين أن هذه التهديدات ناجمة عن تغلغل الجماعات الإرهابية في صفوف المجتمعات الأوروبية.
2 – تدفق أعداد كبيرة من النازحين بإتجاه أوروبا بسبب الحروب والنزاعات المسلحة التي تشهدها العديد من بلدان الشرق الأوسط لاسيّما العراق وسوريا والتي أدت الى زعزعة الأمن والإستقرار في هذه البلدان وإضطرار عشرات الآلاف من مواطنيها للنزوح صوب الدول الأوروبية.
3 – تسببت موجة النزوج غير المسبوقة للاجئين والنازحين من الشرق الأوسط بخلق متاعب وصعوبات كثيرة للدول الأوروبية في كافة الجوانب الأمنية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية. ويعتقد المراقبون أن الدول الأوروبية باتت تخشى من زيادة أعداد المسلمين الوافدين من الشرق الأوسط، وما قد يسببه ذلك من إختلال ديموغرافي لا يخدم مصالحها على المدى البعيد.
4 – إزدياد إحتمالات الصدامات الثأرية التي يمكن أن تحصل بين المتطرفين الأوروبيين واللاجئين من الشرق الأوسط والذين زادت أعدادهم بشكل غير مسبوق في الآونة الاخيرة كما أسلفنا.
5 – توجه الكثير من الإرهابيين والمتطرفين من الشرق الأوسط الى الدول الأوروبية، وهو ما تسبب بحالة من الإرباك لدى الأجهزة الأمنية الأوروبية خصوصاً بعد تغلغل الكثير من هؤلاء الإرهابيين والمتطرفين بين شعوب تلك الدول.
6 – تأثر العديد من الدول الأوروبية بتداعيات أزمات الشرق الأوسط ومن بينها أزمة إسقاط طائرة السوخوي الروسية من قبل تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حيث إضطرت الكثير من هذه الدول ومن بينها ألمانيا وفرنسا لتحريك قطعاتها العسكرية الجوية والبحرية لمواجهة التداعيات المحتملة لهذه الأزمة.
أمّا الفرص التي يمكن للدول الأوروبية أن تستثمرها لصالحها في الشرق الأوسط فيمكن الإشارة اليها بشكل إجمالي أيضا على النحو التالي:
1 – المشاركة الفعّالة والمؤثرة في التصدي للجماعات الإرهابية والمتطرفة في دول المنطقة، لإثبات حسن نواياها في هذا المجال، وهذا يتطلب من الدول الأوروبية إتخاذ مواقف مستقلة بعيداً عن الإملاءات الأمريكية في هذا المضمار.
2 – الإستمرار بعقد صفقات ضخمة لبيع الأسلحة لكثير من دول المنطقة لاسيّما دول مجلس التعاون وخصوصاً السعودية المتورطة في عدوان واسع على الشعب اليمني منذ أكثر من عشرة أشهر.
3 – المشاركة الفعّالة والمؤثرة من قبل الدول الأوروبية في تسوية أزمات الشرق الأوسط وفي مقدمتها الأزمة السورية كما فعلت في حل أزمة الملف النووي الإيراني، حيث أسهمت جهودها في نهاية المطاف بتوقيع الإتفاق التاريخي بين طهران والمجموعة السداسية الدولية في تموز / يوليو 2015. وهذه المساعي ستخدم دون أدنى شك الأوروبيين في تعزيز علاقاتهم مع دول المنطقة في مختلف المجالات.
4 – عدم إنحياز الإتحاد الأوروبي الى جانب تركيا في أزمتها مع روسيا، عكس صورة إيجابية لدى شعوب المنطقة بأن دول الإتحاد لن تتهور في إستخدام ماكنتها الإعلامية والعسكرية لتأجيج هذه الأزمة، وهذا الأمر يبعث على الأمل بأن الأوروبيين بصدد تسوية الأزمات في الشرق الأوسط وليس تعقيدها؛ وهو دون ريب سلوك يخدم المصالح الأوروبية في المنطقة على المدى البعيد.
5 – الإتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية وفّر فرصة ثمينة للدول الأوروبية كي تعزز علاقاتها مع طهران لاسيّما في الجانب الإقتصادي والإستفادة القصوى من فرص الإستثمار داخل إيران في مختلف المجالات.
أخيراً ومن خلال هذه المعطيات يمكن القول إنّ الدول الأوروبية أمام فرصة تاريخية للعب دور أساسي في حل أزمات الشرق الأوسط لاسيّما الأزمة السورية ودعم جهود إيران وروسيا والعراق في مكافحة الإرهاب، وفتح صفحة جديدة في العلاقات مع دول المنطقة قائمة على أساس الإحترام المتبادل والمصالح المشتركة بعيداً عن تأثيرات واشنطن والكيان الإسرائيلي وحلفائهما الإقليميين الذين يتصيدون في الماء العكر لضمان مصالحهم على حساب دول وشعوب المنطقة.