الوقت – بينما يواصل ترامب نهجه في تقويض دعائم التحالفات الغربية التقليدية وإعادة صياغة الدور الأمريكي في منظومة الأمن العالمي، ترسل الصين وروسيا وإيران، عبر مناوراتها البحرية المشتركة، رسائل ذات مغزى عميق مفادها بأنها تمثّل ثقلاً جديداً في النظام الأمني المتحول، يقف نداً قوياً في مواجهة النفوذ الأمريكي المتعاظم.
وفي هذا السياق، دشنت الصين وإيران وروسيا يوم الثلاثاء مناورات "حزام الأمن-2025" المشتركة في المناطق المحاذية لميناء تشابهار، والتي ستستمر حتى الخامس والعشرين من شهر آذار/مارس.
وتعد "حزام الأمن-2025" المناورة البحرية المشتركة الخامسة بين الصين وإيران وروسيا منذ عام 2019، وهي تغطي من حيث اتساع نطاقها العملياتي مثلثاً استراتيجياً بين ثلاثة مضائق حيوية هي: هرمز، وباب المندب، وملقا، وهو مثلث تعبر من خلاله غالبية شرايين التجارة العالمية للسلع والطاقة.
وتشارك في هذه المناورات دول أذربيجان، وجنوب أفريقيا، وعُمان، وكازاخستان، وباكستان، وقطر، والعراق، والإمارات، وسريلانكا بصفة مراقب.
ووفقاً لبيان صدر عن وزارة الدفاع الصينية، ستتضمن هذه المناورات دورات تدريبية متنوعة تشمل شنّ هجمات على الأهداف البحرية، وعمليات التفتيش والصعود والبحث والاحتجاز (VBSS)، والسيطرة على الأضرار، فضلاً عن عمليات البحث والإنقاذ المشتركة، وأعلن أن الهدف الأهم من هذه المناورات، هو تعميق أواصر الثقة العسكرية المتبادلة، وتوطيد التعاون العملي بين قوات الدول المشاركة.
وحسب وزارة الدفاع الصينية، ستركز هذه التدريبات بشكل رئيسي على مجالات الأمن غير التقليدية، وستضطلع بدور محوري في تأمين المنطقة، ومن بين الأهداف الأخرى لهذه المناورات: تعزيز أمن التجارة البحرية الدولية، ومكافحة القرصنة والإرهاب البحري، والعمليات الإنسانية، وتبادل المعلومات في مجال الإغاثة والإنقاذ البحري، وتبادل الخبرات العملياتية والتكتيكية.
وأعلنت وزارة الدفاع الصينية أنها سترسل المدمرة "باوتو" وسفينة الإمداد "غاويوهو" من المجموعة العملياتية المرافقة السابعة والأربعين للقوات البحرية الصينية، للمشاركة في هذه المناورات.
كما أفادت وزارة الدفاع الروسية من جانبها بمشاركة خمسة عشر سفينة حربية، وزوارق دعم، وقوارب مدفعية، إلى جانب مروحيات في هذه المناورات، وقد نشرت الصين مدمرة صواريخ موجهة من طراز Type 052D باوتو وسفينة إمداد غاويوهو، بينما أرسلت إيران سفينة صواريخ خفية عن الرادار وسفينة دورية مساعدة.
يرى المحللون في هذه المناورات مناورةً جيوسياسيةً جليةً المعالم، ووفقاً لما أوردته شبكة سي إن إن، تجسّد هذه المناورات المشتركة التقارب الاستراتيجي المتنامي بين الصين وروسيا وإيران، التي تتشاطر المصالح في تحدي النظام العالمي الذي يتزعمه الغرب.
رسائل مناورات المثلث الاستراتيجي: إيران وروسيا والصين
تحمل هذه المناورات في طياتها رسالةً بليغةً للدول الغربية، مفادها بأن هؤلاء الحلفاء الثلاثة يسعون بخطى حثيثة إلى تشييد صرح محور جديد للقوة البحرية في العالم.
تتبنى الدول الثلاث الصديقة مواقف متآزرة في مواجهة أحادية القطب الأمريكية، وبالتالي فإن إجراء هذه المناورات، يعكس التحالف الأمني والعسكري بين هذه الدول الثلاث ذات الثقل والتأثير، لمواجهة هيمنة وجشع العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشير المستوى الرفيع من التنسيق العسكري، والمصالح المشتركة في مواجهة النفوذ الغربي، واستمرارية هذه المناورات، إلى أن إيران وروسيا والصين تسعى، من خلال التحرر من قيود التبعية للنظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، نحو إرساء دعائم نظام متعدد الأقطاب.
وقد بسطت الولايات المتحدة سيطرتها على المحيط الهندي حتى الآن، بيد أن دخول إيران وروسيا والصين كقوة بحرية منسقة إلى هذا المسطح المائي الشاسع، من شأنه أن يقلب موازين القوى في هذه المنطقة الاستراتيجية، ويخلق نظاماً جديداً في المعادلات الأمنية والاقتصادية البحرية.
وتتعرض إيران وروسيا والصين لضغوط اقتصادية وسياسية من قبل الولايات المتحدة، وتمثّل المناورات المشتركة تجسيداً لوحدة الصف في مواجهة هذه الضغوط، وتجري المناورات في منطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى للولايات المتحدة وحلفائها، وبالتالي يظهر هذا التعاون أن القوى الشرقية الثلاث مستعدة، من خلال تنسيق أوثق، لإبداء موقف موحد في مواجهة استراتيجية الاحتواء الغربية.
وقد بعثت الدول الثلاث في آب/أغسطس 2022، من خلال إجراء مناورات مشتركة على الأراضي الفنزويلية، برسالةٍ لا تخطئها عين إلى الولايات المتحدة مفادها بأنها قادرة بيسر على اختراق الفناء الخلفي لها، وها هي الآن تستعرض هذه القوة أمام غريمتها في مياه المحيط الهندي.
غير أن مناورات حزام الأمن البحري 2025 ليست مجرد تمرين عسكري، بل تعكس أيضاً تقارباً استراتيجياً في المجالات الاقتصادية والأمنية، وقد أطلق ترامب مؤخراً تهديدات ضد مجموعة "بريكس"، باعتبارها واحدةً من أهم التكتلات الاقتصادية الناشئة في العالم، وبالإضافة إلى ذلك، ووفقاً لتحليل أجراه ياروسلاف تروفيموف من صحيفة وول ستريت جورنال، يبدو أن ترامب يسعى للتقارب مع روسيا بهدف تفكيك محور بكين-موسكو-طهران، ويأمل ترامب على ما يبدو أن يستفيد من خلال هذا النهج من خطوط الصدع الجيوسياسية، وتحويل دفة ديناميكيات القوة العالمية لمصلحة واشنطن.
وفي ضوء هذه المعطيات، يعكس إجراء هذه المناورات من قبل ثلاثة أعضاء رئيسيين في مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، متانة العلاقات وصلابة الروابط فيما بينها.
الارتقاء بمكانة إيران على المسرح الدولي
نظراً لأن إدارة دونالد ترامب قد وضعت سياسة الضغط القصوى مرةً أخرى في صدارة أولويات برنامج سياستها الخارجية، واتخذت مواقف عدائية ضد إيران، فإن مشاركة روسيا والصين، باعتبارهما قوتين عالميتين، في مناورات مع إيران، تعكس شرعية وقبول دور إيران كلاعب محوري في مجال الأمن البحري.
ويمكن لهذا الإجراء، في ظل التطورات المثيرة للتوتر في غرب آسيا، أن يعزز الموقف الدبلوماسي لإيران على الصعيد العالمي، بالإضافة إلى ذلك، ترسّخ إيران دورها الاستراتيجي في التجارة والأمن الإقليمي، من خلال استخدام تشابهار كقاعدة للعمليات البحرية.
ومن ناحية أخرى، تتيح هذه المناورات للدول الثلاث فرصةً ثمينةً لصقل قدراتها في مجالات التنسيق العملياتي والحروب البحرية وعمليات الإنقاذ والإغاثة، ويمكن لتبادل المعلومات التكتيكية والتقنيات العسكرية، أن يعزّز قوة هذا المحور في مواجهة التهديدات المشتركة.
وعلاوةً على ذلك، فإن استخدام المعدات البحرية المتطورة وإجراء المناورات المعقدة، وخاصةً في مجالات الدفاع المضاد للسفن وعمليات الإنقاذ وأمن خطوط الشحن، يعكس الاستعداد العالي لهذه القوات لتنفيذ عمليات مشتركة في أتون الحرب.
وتتيح هذه المناورات، التي تجري بالقرب من مضيق هرمز الاستراتيجي وطرق الشحن في بحر عمان والمحيط الهندي، للدول الثلاث إمكانية بسط سيطرة فعالة على شرايين الطاقة والتجارة العالمية الحيوية في حال نشوب أزمة.
وتسعى الصين، من خلال مشروع "حزام واحد، طريق واحد"، وروسيا، من خلال تعزيز وجودها العسكري في المناطق الاستوائية، وإيران، من خلال تطوير قدراتها البحرية، إلى توسيع نطاق نفوذها في المحيط الهندي والوصول إلى المياه المفتوحة، وبالتالي يمكن لهذا التعاون أن يساهم في توطيد الوجود العسكري لهذه الدول في المناطق الاستراتيجية.
خلق توازن في مواجهة التحالف الغربي
يمكن لتشكيل هذا المحور البحري الجديد، أن يفضي إلى إيجاد توازن في مواجهة التحالفات العسكرية الغربية في المحيط الهندي وبحر عمان.
تجري مناورات منافسي واشنطن في تشابهار، بهدف تعزيز القدرات القتالية ورفع كفاءة قوات الدول الثلاث، لتظهر أن عصراً جديداً قد بزغ فجره في العالم، لم تعد فيه الولايات المتحدة القوة العظمى التي لا تنازع والتي تفرض مشيئتها على الآخرين، وبالتالي، يمكن لهذا التعاون، وخاصةً في حال استمراره وتطويره، أن يؤدي إلى تقليص النفوذ العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة وحلفائها في هذه المنطقة الاستراتيجية.
في عالم اليوم، تعدّ القوة البحرية للدول درة التاج في المجال العسكري، ويمكن للدول أن تحرز قصب السبق في هذه المنافسة إذا امتلكت أدوات ومعدات بحرية متطورة، وقد تمكنت روسيا والصين وإيران في السنوات الأخيرة، من تحديث ترسانتها في هذا المضمار والتنافس مع العالم الغربي الذي كان يتربع على عرش هذا المجال حتى الآن، وتشهد المناورات المشتركة في السنوات القليلة الماضية في أمريكا اللاتينية والخليج الفارسي والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، على هذه الحقيقة بجلاء.
وفي المحصلة النهائية، تعدّ مناورات إيران وروسيا والصين في تشابهار أبعد ما تكون عن مجرد مناورة عسكرية عابرة؛ إنها استعراض للقوة السياسية والعسكرية وإعلان صريح عن تشكيل محور جديد للقوة على المسرح العالمي، وسيفضي هذا التعاون الاستراتيجي، إلى جانب تحدي الهيمنة الأمريكية، إلى توطيد أواصر الثقة المتبادلة بين هذه القوى الثلاث وإيجاد توازن جديد في النظام العالمي، وتكشف هذه المناورات أن طهران وموسكو وبكين، تعمل بدأب على رسم خارطة جديدة للنظام الأمني والتجاري العالمي.