الوقت - لقد أثار الزحف السريع لتحالف المجموعات المسلحة في الأراضي السورية ذهول المراقبين، إذ تتابع سقوط المدن الاستراتيجية كأحجار الدومينو - من حلب وحماة وحمص في الشمال، إلى درعا والسويداء في الجنوب.
وقد بلغت حدة هذا التطور المفاجئ مداها حين عاود أردوغان، بعد سنوات من الصمت، إطلاق تصريحات جريئة حول عزمه الاستيلاء على دمشق وإسدال الستار على حكم الأسد! والمفارقة الصارخة أن هذا هو ذات أردوغان الذي كان، قبل أشهر معدودة فحسب، يسعى حثيثاً بشتى السبل للقاء الأسد والظفر بصورة تذكارية معه، ليتحول اليوم إلى التحدث بثقة مطلقة عن نهاية محتومة للنظام السوري.
يكمن السبب الجوهري وراء هذا التصعيد الخطابي في الوتيرة المذهلة للتحولات الميدانية، إذ يشهد المشهد السوري ظاهرةً غير مسبوقة تتمثل في تبدّد المكتسبات الاستراتيجية التي راكمها محور المقاومة عبر عقد كامل من النضال والجهاد - دفاعاً عن المقدسات وتأميناً لخطوط الإمداد اللوجستي - في غضون أيام معدودة، ولعل السقوط المدوي لمدينة حلب الاستراتيجية خلال أربع وعشرين ساعة فحسب، وما تلاه من انهيار متتالٍ للخطوط الدفاعية الأمامية للجيش السوري، يُجسّد حجم هذا التحول الدراماتيكي.
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، يتبادر إلى الأذهان تساؤل محوري وإشكالية جوهرية تتمحور حول الأسباب الكامنة وراء سلسلة الانسحابات المتتالية، التي شهدتها القوات المسلحة السورية بمختلف تشكيلاتها أمام زحف المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية - وهي ظاهرة تستدعي تحليلاً معمقاً يأخذ في الاعتبار جملةً من العوامل المتشابكة والمتداخلة.
تآكل القدرات العسكرية للجيش السوري في مقابل تعاظم القوة العسكرية للمعارضة
تتصدر الكفاءة القتالية والجاهزية العملياتية للقوات المسلحة، قائمة العوامل الحاسمة في تحديد مسار النصر أو الانكسار في الميادين العسكرية، فعلى امتداد عقود متوالية، تربع الجيش السوري على عرش القوة العسكرية في المنطقة العربية، بيد أن اندلاع الأزمة الداخلية وما أعقبها من صراع ضارٍ امتدّ لعقد كامل - في مواجهة التنظيمات الإرهابية المدعومة من القوى العربية الثرية والنظام التركي والمعسكر الغربي - قد أفضى إلى استنزاف ممنهج لقدراته العسكرية، ما استوجب إعادة بناء وترميم هذه القدرات في أعقاب انحسار موجة النزاع.
وقد أماطت التطورات الأخيرة اللثام عن حقيقة مؤلمة، مفادها بأن المساعي الحثيثة لإعادة هيكلة المنظومة العسكرية السورية وتدعيمها بتشكيلات نخبوية متخصصة - على غرار القوة الخاصة 25 - لم تُفلح في إحداث التحول النوعي المنشود في تعزيز قدراتها على مجابهة التحديات الاستراتيجية الراهنة.
في المقابل، تمتعت "هيئة تحرير الشام" وسائر الفصائل المسلحة المناوئة منذ عام 2020 بملاذ آمن في محافظة إدلب، ما وفّر لها نافذةً ثمينةً لتلقي الدعم العسكري والإمداد التسليحي من النظام التركي وأطراف إقليمية ودولية متعددة - كأوكرانيا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني - فضلاً عن تعزيز قدراتها البشرية وتكثيف حملات التجنيد في صفوفها.
لقد نجحت "هيئة تحرير الشام" على استحداث تشكيلات عسكرية نوعية، يمكن القول بأنها أحدثت تحولاً جذرياً في موازين القوى الميدانية خلال الآونة الأخيرة، فقد برزت وحدة النخبة شبه العسكرية التابعة لها، المعروفة باسم "القراصنة الحمر"، في قيادة العمليات النهارية، بينما تضطلع "سرايا الحراري" - المؤلفة من قرابة 500 مقاتل مزودين بمنظومات متطورة للرؤية الليلية - بتنفيذ عمليات ليلية دقيقة.
وفي تطور لافت، نجحت التنظيمات الإرهابية، بدعم لوجستي وتقني من أنقرة وكييف، في تأسيس كتائب الصقور المتخصصة في تشغيل المسيّرات الانتحارية والصواريخ المجنحة - التي تضاهي قدرتها التدميرية الشاحنات المفخخة - وقد أثبتت فعاليتها في استهداف المنظومات العسكرية الثقيلة للجيش السوري على خطوط التماس الأمامية.
وفي المقابل، وعلى الرغم من مبادرة القوات الروسية إلى تأسيس وحدة متخصصة للطائرات المسيّرة ضمن هيكلية الجيش السوري، إلا أن هذه الوحدة لم تُظهر حتى اللحظة أي فاعلية عملياتية ملموسة على أرض الواقع.
المعضلات الاقتصادية في سوريا
يرزح الاقتصاد السوري منذ سنوات تحت وطأة اضطرابات عميقة وفوضى مستشرية، فقد أفضى التراكم المتسارع للتكاليف الباهظة للحرب المديدة - مقترناً بالنزوح القسري لشرائح واسعة من النسيج المجتمعي السوري، والتدمير الممنهج للبنى التحتية الاقتصادية، وأعباء إعادة الإعمار الثقيلة، والضغوط الخانقة للعقوبات الغربية المفروضة على دمشق - إلى تشكيل معادلة اقتصادية شديدة التعقيد في مرحلة ما بعد النزاع.
فحين أُبرم اتفاق وقف إطلاق النار برعاية تركية-روسية (بصفتهما الطرفين الضامنين) مطلع عام 2020، كان الدولار يعادل نحو 1150 ليرة سورية، بيد أنه مع انطلاق هجوم المجموعات المسلحة الأسبوع المنصرم، كان سعر الصرف قد تدهور إلى 14750 ليرة، ليواصل انحداره خلال الأيام القليلة الماضية حتى بلغ عتبة 17500 ليرة.
وفي خضم هذا المشهد الاقتصادي المأزوم، تشهد المؤسسة العسكرية السورية ظاهرةً متناميةً من حالات التسرب والفرار بين صفوف ضباطها وجنودها، فقد ألقت الأزمة الاقتصادية بظلالها الثقيلة على القوات المسلحة، حيث يتراوح الراتب الشهري للعسكري السوري بين 100 و200 دولار فقط، ما يشكّل عبئاً معيشياً لا يُطاق على منتسبي المؤسسة العسكرية، وفي المقابل، تستغل التنظيمات الإرهابية المدعومة من واشنطن وأنقرة هذا الوضع المتردي، عبر استقطاب الشباب السوري المعوز بإغراءات مالية مغرية ووعود برواتب مرتفعة.
التفاؤل السياسي المقترن بالغفلة عن الميدان
على مدى سنوات متعاقبة، هيمنت قناعة راسخة في الأوساط السياسية مفادها بأن الصراع في سوريا قد بلغ نهايته، وأن الدولة قد نجحت في ترويض الأزمة واحتوائها، وقد أثمر مسار التطبيع مع المنظومة العربية، عن إعادة نسج شبكة العلاقات الخارجية السورية.
وفي تطور لافت، انضم تكتل من عشر دول أوروبية - بقيادة إيطاليا - إلى المسار العربي، معلناً تمرده على سياسة الاتحاد الأوروبي في عزل دمشق، ما بدا وكأنه يؤذن بانفراجة دبلوماسية وشيكة وعودة الاستقرار إلى الساحة السورية، وقد ترسخ في الأذهان افتراض مفاده بأنه على الرغم من وطأة الظروف في سوريا، إلا أن الأزمة بحد ذاتها قد طُويت صفحتها.
غير أن هذا التفاؤل السياسي المفرط، قد أفضى إلى غفلة خطيرة عن المشهد العسكري الميداني، حتى أن المؤسسة العسكرية السورية أغفلت تعزيز المنظومة الدفاعية وتحصين الخطوط الأمامية في محيط إدلب، ما جعل مدينة حلب الاستراتيجية تسقط في قبضة المجموعات المسلحة مع أول موجة من هجماتهم الخاطفة.
الحرب في لبنان
لا مراء في أن المواجهة العسكرية المحتدمة على الساحة اللبنانية، قد ألقت بتداعياتها الاستراتيجية على المشهد السوري برمته، فعلى مدى سنوات الأزمة في سوريا، شكّلت قوات حزب الله، إلى جانب فصائل المقاومة الأخرى، رافداً عسكرياً حيوياً في معركة الجيش والشعب السوري ضد التنظيمات الإرهابية.
بيد أن اشتعال فتيل الحرب في غزة وامتداد لهيبها إلى الساحة اللبنانية، قد فرض على حزب الله إعادة تموضع قواته وسحبها من الأراضي السورية، الأمر الذي انعكس بصورة جوهرية على المنظومة الدفاعية للجيش السوري، مُحدثاً ثغرةً استراتيجيةً في قدراته العسكرية.
حل قوات الدفاع الوطني
يمكن اعتبار قرار حكومة الأسد بتفكيك قوات التعبئة الشعبية - المعروفة باسم "الدفاع الوطني" - من أفدح الأخطاء الاستراتيجية التي شهدتها الساحة السورية، فهذه القوات، التي تأسست في عام 2012، شكّلت رافداً حيوياً للقوات المسلحة، وأضحت ركيزةً أساسيةً في مكافحة التنظيمات الإرهابية على الأراضي السورية.
لقد تم تشكيل وتنظيم هذه القوات بهدف التصدي لتنظيم "داعش" الإرهابي التكفيري وسائر المجموعات الإرهابية المتغلغلة في النسيج السوري، متبنيةً نموذجاً عملياتياً يحاكي تجارب الحشد الشعبي العراقي وحزب الله اللبناني والتعبئة الإيرانية.
وفي مفارقة لافتة، نجد أن العراق - رغم الضغوط الأمريكية الهائلة - قد تمسك بقوات الحشد الشعبي، بل عمد إلى إضفاء الطابع المؤسسي عليها عبر دمجها في المنظومة العسكرية الرسمية، وقد أثبت هذا القرار حكمته الاستراتيجية لاحقاً، من خلال الدور المحوري لهذه القوات في إجهاض محاولات "داعش" لاستعادة نفوذه، وفي المقابل، استهانت القيادة السورية بهذا العامل الحيوي، ما أفضى إلى تداعيات وخيمة لم تكن في الحسبان.