الوقت - على الرغم من التحذيرات الإيرانية الصريحة للدول العربية في المنطقة، من مغبة السماح باستخدام مجالها الجوي في أي عدوان إسرائيلي على الأراضي الإيرانية، إلا أن الطائرات الحربية الإسرائيلية تجاوزت هذه التحذيرات، مستغلةً المجال الجوي للدول المجاورة في عدوانها الأخير على المنشآت العسكرية الإيرانية.
ففي بيان رسمي صادر عن هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية يوم السبت الماضي، كشف النقاب عن قيام سرب من المقاتلات الإسرائيلية، مستفيدةً من المجال الجوي الخاضع للنفوذ الأمريكي في العراق، بإطلاق صواريخ بعيدة المدى ذات رؤوس حربية فائقة الخفة، مستهدفةً منظومات الرادار الحدودية في محافظات إيلام وخوزستان ومحيط محافظة طهران.
وكما كان متوقعاً في المشهد الجيوسياسي المعقد، فإن انتهاك السيادة الجوية العراقية تم بشكل صارخ، متجاوزاً الرفض القاطع والموقف السيادي لحكومة بغداد، ما استدعى رداً دبلوماسياً حازماً من المسؤولين العراقيين، الذين أدانوا بشدة هذا العدوان السافر وانتهاك السيادة الوطنية العراقية.
وفي خطوة دبلوماسية تعكس حدة الأزمة، قامت الحكومة العراقية يوم الأحد الماضي بتقديم مذكرة احتجاج رسمية ذات لهجة حازمة، إلى مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، وتضمنت المذكرة إدانةً قاطعةً وصريحةً للانتهاك الجسيم الذي ارتكبه الكيان الصهيوني ضد المجال الجوي والسيادة العراقية، مع التنديد باستغلال الأجواء العراقية كمنصة لشنّ عدوان على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي سياق التحركات الدبلوماسية المتسارعة، أصدر رئيس الوزراء العراقي تعليمات صارمة لوزارة الخارجية، بفتح قنوات اتصال فورية مع الجانب الأمريكي، وتستند هذه المبادرة إلى الأطر القانونية والدبلوماسية المتمثلة في بنود اتفاقية الإطار الاستراتيجي الثنائية، والتي تلزم الولايات المتحدة بضمان أمن العراق وصون سيادته، والهدف الرئيسي من هذا التحرك، هو مناقشة تداعيات هذا الخرق الخطير، والتأكيد على ضرورة احترام السيادة العراقية.
وفي بيان رسمي يعكس موقف الدولة العراقية، أكد المتحدث الرسمي باسم الحكومة على الموقف الثابت والراسخ للعراق، في الحفاظ على سيادته الوطنية واستقلاله السياسي ووحدة أراضيه، وشدّد على الرفض القاطع والمطلق لاستخدام المجال الجوي العراقي، كمنصة لتنفيذ أي أعمال عدائية ضد أي دولة في المنطقة.
وقد تجاوزت ردود الفعل الإطار الحكومي الرسمي، حيث سارعت القوى السياسية والشخصيات الوطنية البارزة في المشهد العراقي، إلى الإعلان عن مواقفها الحازمة والصارمة إزاء هذا الانتهاك الفاضح للسيادة الوطنية، ما يعكس إجماعاً وطنياً على رفض أي مساس بالسيادة العراقية.
في خضم هذه التطورات بالغة الخطورة، أدلى السيد "هادي العامري"، الأمين العام لمنظمة بدر العراقية، بتصريحات مهمة، حيث استنكر بأشدّ العبارات العدوان الغاشم على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مصرحاً: ها هي الولايات المتحدة الأمريكية تُجدّد برهانها القاطع على نهجها الاستعلائي في السيطرة على الفضاء السيادي العراقي، متخذةً إجراءات تتناقض جوهرياً مع المصالح الوطنية العليا للعراق وسيادته وشعبه، بل تجلّى سافراً سعيها المحموم لخدمة الكيان الصهيوني ودعم مخططاته العدوانية التي تستهدف زعزعة أمن المنطقة واستقرارها.
وأردف العامري: لقد آن الأوان، وبصورة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لإنهاء كل أشكال الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي العراقية.
وفي سياق متصل، أصدرت كتائب حزب الله العراقية بياناً جاء فيه: إن الاستغلال غير المسبوق للمجال الجوي العراقي لتنفيذ اعتداءات على المنشآت الإيرانية، يُمثّل تصعيداً خطيراً وسابقةً لم تواجهها إيران من قبل، وتتوافر أدلة قطعية تؤكد استخدام الأراضي الأردنية والصحراء الحجازية كممرات جوية للطائرات المعادية، وهو ما يستحيل تنفيذه دون تنسيق محكم مع القوات الأمريكية المهيمنة على الأجواء العراقية.
وأطلقت الكتائب تحذيراً صارماً، حيث أعلنت أن العدوان على الجمهورية الإسلامية الإيرانية من قِبل كيان متمرد ودخيل في المنطقة، يُمثّل تهوراً وعدواناً سافراً يستوجب المواجهة الحازمة، إذ إن التغاضي عنه سيؤسس لسابقة خطيرة تُغري هذا العدو المتغطرس بتكرار عدوانه.
أما السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، فقد أدان بعبارات حازمة العدوان الصهيوني الغاشم على إيران، مؤكداً أن أي خرق للسيادة الجوية العراقية واستغلالها المحتمل من قِبل الكيان الصهيوني في عدوانه الإرهابي، يستدعي تحركاً دبلوماسياً وسياسياً عاجلاً وحازماً من قبل الحكومة العراقية.
کذلك، أصدر السيد عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة الوطني العراقي، بياناً حازماً أدان فيه العدوان الصهيوني السافر على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي سياقٍ متصل، جدَّد نداءه الملح إلى المجتمع الدولي، داعياً إياه إلى التكاتف والتعاضد الفعّال للحدّ من تمدد النفوذ الصهيوني المتعارض جذرياً مع المواثيق والأعراف الدولية.
العراق والحاجة الملحة لمنظومة دفاع جوي مستقلة
في خضم التصعيد الإقليمي المتنامي، والاستغلال الأمريكي-الصهيوني غير المشروع للمجال الجوي العراقي، تتصاعد التوقعات بعودة ملف الفجوة الدفاعية الجوية إلى صدارة المشهد السياسي والجماهيري العراقي، وتبرز معها الحاجة الملحة لتأكيد السيادة العراقية الكاملة على فضائها الجوي.
وعلى الرغم من المساعي الحثيثة التي بذلتها الحكومة العراقية في السنوات المنصرمة لتعزيز قدراتها الدفاعية، وما أثمرت عنه من اتفاقيات استراتيجية مع دول متعددة، إلا أن هذه الاتفاقيات لا تزال تنتظر التفعيل الفعلي على أرض الواقع.
وفي هذا السياق، كشف مهند غالب الأسدي، القائد العام للدفاع الجوي العراقي، في سبتمبر المنصرم، عن إبرام صفقة استراتيجية مع كوريا الجنوبية لاقتناء منظومات دفاع جوي فائقة التطور، وأوضح قائلاً: تمثّل هذه المنظومات قفزةً نوعيةً في مجال التقنيات الدفاعية المتقدمة عالمياً، حيث نجح العراق في إبرام اتفاقية لاقتناء عدد منها لتأمين سيادته الجوية، وسيتم توريد هذه المنظومات المتطورة تباعاً خلال السنوات القادمة، وفق خطة تمويلية مرحلية محكمة، وستشكّل هذه المنظومات درعاً واقياً يعزّز السيادة الوطنية، ويؤمّن حمايةً شاملةً للمجال الجوي العراقي ضد أي تهديدات محتملة.
على الرغم من المساعي الدؤوبة التي تبذلها بغداد، وما خصصته من اعتمادات مالية سخية لهذا المشروع العسكري الحيوي في الموازنة العامة، تواصل الإدارة الأمريكية نهجها العرقلي المُمنهج، ولا تزال الضبابية تكتنف موقف واشنطن حيال السماح للعراق بالتصرف في احتياطياته المالية السيادية، لاقتناء هذه المنظومات الدفاعية المتطورة، والتي تستهدف في جوهرها مجابهة السياسات التصعيدية الأمريكية-الصهيونية في المنطقة.
وفي منعطفٍ تقني بارز، أعلنت القوات الجوية العراقية في سبتمبر 2022 عن استلامها أول منظومة رادارية فرنسية متقدمة من طراز GM400، من إنتاج مجموعة "تاليس" الفرنسية، وتتميز هذه المنظومة بقدراتها في رصد القاذفات والمقاتلات من مسافة 450 كيلومتراً، وتتبع الصواريخ المجنحة من نطاق 250 كيلومتراً، مع قدرة مسح راداري تصل إلى ارتفاع 30 كيلومتراً عن سطح الأرض.
غير أن المفارقة الجوهرية في هذا العقد الاستراتيجي، تتجلى في الإقصاء التام للقوات المسلحة العراقية عن إدارة هذه المنظومة المتطورة، حيث ينفرد الضباط الفرنسيون بصلاحيات التشغيل والإشراف الكاملة، وبالنظر إلى تموضع فرنسا في المحور الأمريكي-الصهيوني، فمن المؤكد أن هذه المنظومة لن تُفعَّل ضد الطائرات الحليفة.
وقد أثبتت الوقائع التاريخية، بشكل قاطع لا يقبل التأويل، أن القوى المحتلة لا تنظر إلا من خلال عدسة مصالحها الضيقة، وأن نشر المنظومات الدفاعية تحت هيمنتها المباشرة لن يكون، بأي حال من الأحوال، في خدمة الأمن الوطني العراقي أو استقلاله الدفاعي أو مصالحه العليا.
وفي ظل استمرار النهج التخريبي الأمريكي-الإسرائيلي الذي لا يعرف حدوداً، بات لزاماً على العراقيين التحرر من أوهام الوعود الغربية الزائفة، والمبادرة بحزم نحو صياغة استراتيجية وطنية متكاملة لحماية أمنهم القومي.
لقد أضحى المشهد الأمني العراقي والإيراني نسيجاً متكاملاً لا يقبل التجزئة، حيث يمثّل التحالف بين البلدين الشقيقين محور ارتكاز استراتيجي، يشبه في جوهره خيط المسبحة الذي يضمن تماسك حباتها في وحدة متناغمة، وانقطاع هذا الرباط يؤذن بتناثر عقد الوحدة وتصدع النظام الأمني برمته.
ولعل التجربة التاريخية في مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، تجسّد نموذجاً ساطعاً لهذا التلاحم، حيث تجلت بصيرة البلدين في إدراك عمق التهديد المشترك وتشابك المصالح الأمنية، فكان أن سطّرت القوات الإيرانية، بقيادة الشهيد اللواء قاسم سليماني، مع إخوانهم العراقيين ملحمةً بطوليةً في الذود عن حياض العراق، حتى لم يسقط شبر واحد من أرضه في براثن الإرهاب.
وعليه، يتعين على العراق اليوم أن يتبنى ذات المنظور الاستراتيجي، إزاء محاولات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني استغلال المجال الجوي العراقي، كمنصة لاستهداف الأمن الإيراني.
حان وقت تصفية الحساب مع الولايات المتحدة الأمريكية
في حين يُشكّل الموقف الرسمي للحكومة العراقية إزاء انتهاك سيادتها الإقليمية في العدوان على إيران منعطفاً سياسياً جوهرياً، إلا أن المرحلة الراهنة تستدعي صياغة منظومة ردع استراتيجية متكاملة، لوضع حد نهائي للتجاوزات الصهيونية المتكررة، وكبح جماح أي محاولات مستقبلية لاستغلال الفضاءات السيادية للدول المجاورة في الاعتداء على السيادة الإيرانية.
لقد كشفت معطيات العقدين المنصرمين، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الولايات المتحدة تمثّل المصدر الرئيسي لزعزعة الاستقرار في المشهد العراقي، متذرعةً بمسوغات واهية لإدامة وجودها الاحتلالي على الأراضي العراقية.
وعلى الرغم من المصادقة التاريخية للبرلمان العراقي على قرار إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في يناير 2020، إلا أن غياب الإرادة السياسية الحازمة والاعتبارات السياسية المعقدة في أروقة السلطة ببغداد، حالت دون ترجمة هذا القرار إلى واقع ملموس. بيد أن الاختراق الإسرائيلي الصارخ للسيادة الجوية العراقية، بتواطؤ أمريكي مكشوف، شكّل صدمةً عميقةً للمنظومتين السياسية والأمنية، ما يستوجب تفعيلاً فورياً وحازماً لمسار إخراج القوات الأمريكية.
وفي حين تتظاهر الإدارة الأمريكية بالقبول المبدئي للانسحاب الكامل من العراق وفق جدول زمني محدد، إلا أن الممارسات العملية تكشف عن سياسة مماطلة ممنهجة، تتجلى في افتعال العراقيل واختلاق الذرائع للتنصل من الالتزامات المقررة.
يتمسك صناع القرار في البيت الأبيض، استناداً إلى عمليات إعادة انتشار محدودة للقوات في بعض المواقع، بادعاءاتهم حول انسحاب الغالبية العظمى من القوات الأمريكية، مع الإبقاء على أعداد ضئيلة لأغراض التدريب والاستشارة للقوات المسلحة العراقية، وذلك - حسب زعمهم - تلبيةً لطلب بغداد.
بيد أن الوثائق والتقارير الموثقة الصادرة عن أعضاء البرلمان وفصائل المقاومة، تدحض هذه المزاعم بشكل قاطع، مؤكدةً وجود آلاف العسكريين الأمريكيين في القواعد العراقية، بل قيامهم بتشييد تحصينات إضافية، ولا سيما في قاعدة عين الأسد الاستراتيجية.
وما يسترعي الانتباه أن الولايات المتحدة تتعامل مع مسألة وجودها العسكري على الأراضي العراقية وسيادة هذا البلد، من منظور استعلائي ووصائي، وهو ما تجلى بصورة جلية في أعقاب الغارة الجوية الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية.
وفي حين تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري في عدد من الدول العربية الأخرى بالمنطقة، فإنه عندما طالبت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذه الدول بإغلاق مجالها الجوي في وجه أي تهديدات محتملة لسلامة أراضيها، وجدت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني نفسيهما عاجزين عن تنفيذ أي طلعات هجومية انطلاقاً من أراضي تلك الدول. إلا أن البيت الأبيض، وعلى الرغم من إدراكه التام لاستياء القيادة العراقية، لم يتورع عن انتهاك السيادة الوطنية للعراق بشكل سافر، مهيّئاً بذلك الظروف المواتية لشن هجوم إسرائيلي عبر الأجواء العراقية.