الوقت - وقفت الدول المحيطة بفلسطين موقفاً رافضا للحرب على قطاع غزة، والعدوان الإجرامي الوحشي الذي يشنه كيان الاحتلال على الفلسطينيين في القطاع، لكن بعض الدول كان لها موقف أكثر خصوصية وذلك بصلتها المباشرة بتداعيات تلك الحرب، ولا سيما مصر والأردن اللتان تتقاسمان الحدود مع غزة والضفة الغربية المحتلة، إذ قابلتا سيناريو تهجير الفلسطينيين برفض شديد.
فبعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 واحتلال جيش الكيان الإسرائيلي غزة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان السوري، أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني للكيان، إذ باتت مخيمات اللاجئين المكتظة بؤر مقاومة للاحتلال، وانطلقت عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال.
التهجير ووضوح أهداف الكيان
تكشف وثائق بريطانية سرية أن كيان الاحتلال وضع خطة سرية قبل 52 عاما لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى مناطق أخرى على رأسها العريش المصرية، إذ كان التهجير موضوعا أساسيا في التاريخ الفلسطيني، فأثناء النكبة عام 1948، هرب نحو 700 ألف فلسطيني، وفي حرب عام 1967، بعد سيطرة قوات الاحتلال على الضفة الغربية وقطاع غزة، هرب نحو300 ألف فلسطيني، معظمهم إلى الأردن، ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين الآن ما يقرب من 6 ملايين، يعيش معظمهم في مخيمات ومجتمعات محلية في لبنان وسوريا والأردن ومصر، ودول عربية وأجنبية أخرى.
فبعد توقف القتال في حرب 1948، رفضت سلطات الكيان السماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم، ولم تقبل المطالب الفلسطينية بعودتهم كجزء من اتفاق السلام، بحجة أن ذلك سيهدد الأغلبية اليهودية في البلاد، لذا برز الخوف المصري من أن يتكرر ذلك فينتهي الأمر بعدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين من غزة خارج وطنهم إلى الأبد.
ذهب كيان الاحتلال في حربه على القطاع إلى أبعد مستوى من التصعيد والوحشية، فاستهدف كل شيء، ودمر البنية التحتية التي قد تضمن قيام أي مجتمع بشري هناك، فبدا واضحاً الهدف المباشر من هذه الحرب وهو تهجير الفلسطينيين من أرضهم، من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
ودعا كيان الاحتلال في الأيام الأولى للعدوان، جميع المدنيين في النصف الشمالي من قطاع غزة، أي أكثر من مليون نسمة، إلى الانتقال نحو جنوب القطاع، وحضهم، على "عدم الإبطاء"، وهو ما أكدته الأمم المتحدة بأنه تم إبلاغها أن الكيان يريد أن يتحرك جميع السكان إلى جنوب القطاع، الأمر الذي رفضته القيادة الفلسطينية بشدة بقولها: إن "التهجير القسري لسكان غزة خط أحمر لا يمكن تجاوزه".
تهجير الفلسطينيين.. همٌّ أردني
منذ بدء العدوان على غزة تتوجه التصريحات الرسمية الأردنية باتجاه الرفض المطلق لأي خطوة تهدف لتهجير الفلسطينيين، أو أن يؤدي تصاعد وتوسع الصراع إلى تدفق اللاجئين من الضفة الغربية إلى داخل الحدود الأردنية.
فقد حذر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في بيان مشترك من كارثة إقليمية في حال اتساع نطاق هذه الحرب، وأكدا موقف الأردن ومصر الموحد والرافض لسياسة العقاب الجماعي من حصار أو تجويع أو تهجير للأشقاء في غزة، مشددين على أن أي محاولة للتهجير القسري إلى الأردن أو مصر مرفوضة.
كما أكد العاهل الأردني على وجوب التعامل مع الوضع الإنساني داخل حدود قطاع غزة والضفة الغربية، مشيرا إلى أنه لا يمكن استقبال اللاجئين في الأردن، ولا في مصر جراء الحرب على غزة، وهذا خط أحمر.
فقد توجّه الملك عبد الله الثاني إلى بروكسل، للقاء قيادات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وحكومة بلجيكا، لبحث التطورات في قطاع غزة، وأعلن الديوان الملكي الأردني، أن زيارة الملك هذه تهدف للضغط على المجتمع الدولي من أجل وقف إطلاق النار، والسعي من أجل إدخال المساعدات الطبية والإغاثية إلى غزة، بشكل دائم ومستمر، وتحذير القيادات العالمية من مخاطر التهجير القسري الذي تسعى "إسرائيل" إليه في الأراضي المحتلة.
وسبق أن أورد الملك عبد الله الثاني هذه التحذيرات خلال لقائه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في شهر أكتوبر الماضي بعد مخاوف في الأوساط الأردنية من إحياء آمال اليمين الإسرائيلي المتطرف بتنفيذ خطط التهجير، وطروحات "الوطن البديل"، عبر تصدير الأزمة إلى دول الجوار ومفاقمة قضية اللاجئين تحديداً على حساب مصر والأردن.
فالأردن ينادي بحل الدولتين، لذا انطلق القلق الأردني من الخشية من محاولات كيان الاحتلال إفراغ الضفة وغزة من ساكنيها، وترحيلهم إلى الأردن ومصر، ما يعني تصفية القضية الفلسطينية، إذ أعلن الأردن رفضه المطلق أن يكون "الوطن البديل" للفلسطينيين، ضمن ما عرف بـ"صفقة القرن"، التي روج لها الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وفق الأمم المتحدة نحو 2.2 مليون لاجئ، ويشكل الأردنيون من أصل فلسطيني نحو نصف عدد سكان المملكة، التي كانت الضفة الغربية تخضع لإدارتها قبل حرب يونيو 1967، فالأردن عانى سابقاً من تبعات الهجرة واللجوء، إذ استقبل فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وسوريين خلال العقود الماضية، وكلهم لم يعودوا، الأمر الذي شكل عبئاً كبيراً عليه، على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية أيضا، إذ إن قيام دولة فلسطينية يمكن أن يشكل ركيزة أساسية للأمن الوطني في الأردن.
ومن جانب آخر تتخوف الأردن من استثمار الأحزاب والجهات المرتبطة بالإخوان المسلمين لتبعات الحرب، بدءا من مظاهر الاحتجاج على العدوان، وانتهاء بتوسيع قاعدتها الشعبية فيما لو تم التهجير، وهو ما سيؤدي إلى نشوء كيان موازٍ لا يمكن التنبؤ بمستوى طموحه السياسي، ـوبطريقته في الوصول إلى غاياته.
لذا لم يكن مستغربا الموقف الرسمي الأردني تجاه الحرب، ولا تصريحاته القطعية تجاه قضية التهجير، إذ أكد رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة بالنسبة للأردن في إطار الموقف المتدرج في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته، مشددا على أن أي محاولات أو خلق ظروف لتهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية خط أحمر، وسيعدّه الأردن بمثابة إعلان حرب، فبدأ الأردن مع هذه اللهجة الصارمة بطرح الخيارات كافة، ومنها العمل العسكري.
وبالفعل فقد شهدت الحدود مع فلسطين تحركات عسكرية أردنية مؤخرا فيما وجه رسالة لكيان الاحتلال بجدية الأردن واستعداده لتنفيذ خيار هدد به إذا ما تم تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية تجاه الأراضي الأردنية.
إن تعاطي الأردن مع القضية الفلسطينية كان على شقين، الأول: هو التعامل مع الموضوع الفلسطيني من حيث هو قضية مستقلة، إذ تدعم الأردن الحقوق الفلسطينية وتدعو لإقفال هذا الملف بإنجاز حل الدولتين والاعتراف بالحقوق الفلسطينية، والشق الثاني هو تبعات اعتداء كيان الاحتلال على الفلسطينيين، والحروب التي يشنها عليهم، وانعكاس ذلك على الأردن، وما له من هواجس ومخاوف أمنية واقتصادية و اجتماعية، ولوجستية.