الوقت - في الوقت الذي يحاول فيه الکيان الصهيوني نسيان قضية فلسطين بجر الدول العربية إلى معسكر تطبيع العلاقات، وتنفيذ خططه الطموحة في الضفة الغربية، اتخذت السعودية مبادرةً سياسيةً جديدةً صدمت الصهاينة.
حيث اختارت السعودية، السبت الماضي، "نايف السديري" كأول سفير غير مقيم لهذا البلد لدى فلسطين، وسلم السديري أوراق اعتماده إلى مجدي الخالدي مستشار رئيس السلطة الفلسطينية في السفارة الفلسطينية في الأردن، وقريباً سيتم تسليم أصل هذه الأوراق إلى محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية.
وفي هذا السياق، أعلن نايف السديري: "هذه خطوة مهمة، وتؤكد رغبة الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، في تعزيز العلاقات مع الأشقاء في فلسطين".
ورحّب مجدي الخالدي بدوره بتعيين السفير السعودي في فلسطين، وأعلن خلال اجتماع نظمته السفارة الفلسطينية في الأردن: "هذه خطوة مهمة، وستلعب دوراً مهماً في تعزيز العلاقات الأخوية القوية والمستقرة التي تربط البلدين والشعبين الشقيقين".
کما قال مسؤول في السلطة الفلسطينية، طلب عدم نشر اسمه، في حديث مع وكالة فرانس برس، إن "السعودية اعترفت بالحكومة الفلسطينية وعاصمتها القدس من خلال تعيين سفير لها في فلسطين، وهذه الخطوة هي جزء من إجراءات متعددة المراحل، وسنواصل تطوير العلاقات مع الرياض".
في العقود الأخيرة، كانت السعودية أحد الرعاة الماليين للسلطة الفلسطينية، وهي تحاول زيادة دعمها السياسي لهذه المنظمة، من خلال إرسال سفير وتعزيز ثقل الفلسطينيين ضد الاحتلال.
التزام السعودية بحل الدولتين
يأتي الإجراء السعودي الجديد في وضع يحاول فيه كبار المسؤولين الأمريكيين إقناع السعوديين بتطبيع العلاقات مع الکيان الصهيوني، من خلال رحلات متكررة إلى السعودية في الأشهر الأخيرة.
ولذلك، فإن إرسال السفير إلى فلسطين المحتلة هو رسالة واضحة للکيان الصهيوني والولايات المتحدة، مفادها بأن السعوديين ما زالوا متمسكين بمبادراتهم السابقة الداعمة لفلسطين.
في عام 2002، قدمت السعودية خطة سلام تستند إلى قرارات دولية بهدف إقامة دولة فلسطينية داخل حدود عام 1967، لكن الکيان الإسرائيلي رفض هذه الخطة ولم يسمح بعد بإقامة دولة فلسطينية.
أكدت هذه الخطة انسحاب الصهاينة من الضفة الغربية وإقامة الحكومة الفلسطينية في القدس، ومع ذلك في العقدين الماضيين لم ينسحب المحتلون من الضفة الغربية فحسب، بل استمروا في تطوير مناطق في هذه المنطقة من خلال بناء مستوطنات جديدة.
ورغم أن الكيان الصهيوني قد التزم بتهيئة ظروف إقامة دولة فلسطينية في اتفاقية "أوسلو" عام 1993، إلا أن سلطات هذا الکيان لم تفِ بالتزاماتها، لدرجة أن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الکيان الإسرائيلي، صرح مؤخرًا بوضوح أنه لن يسمح بإقامة دولة فلسطينية، حتى أن حكومة نتنياهو الراديكالية بدأت بتهويد القدس بالموافقة على خطط مثيرة للجدل واستفزازية، وقد زادت هذه القضية من حدة التوتر بين فصائل المقاومة والکيان.
وعلى الرغم من جهود واشنطن المتكررة لإتمام التسوية، لا يزال السعوديون يصرون على خططهم لتشكيل دولة فلسطينية، وهذا الخلاف مع تل أبيب أوقف طريق التطبيع.
يعتبر انتخاب سفير في القدس المحتلة بمثابة رسالة إلى أمريكا والکيان الصهيوني، مفادها بأنه إذا كانت هناك خطوة إيجابية في عملية التطبيع في المستقبل، فيجب على الجانب الصهيوني أن يوافق على السلام العربي، لذلك، فإن تعيين السفير السعودي في فلسطين، يدحض ادعاءات نتنياهو بأن السعوديين لن يربطوا مسألة التطبيع بالقضية الفلسطينية.
التقليل من ضغوط تطبيع العلاقات
يسعى الإجراء السعودي الجديد أيضًا إلى تحقيق أهداف أخرى، إذ تحاول السعودية بقيادة ابن سلمان تعزيز ثقلها السياسي في التطورات الإقليمية، من خلال اختيار سفيرها لدى فلسطين لإظهار أن هذا البلد لا يزال داعمًا للشعب الفلسطيني، لأنه في الأشهر الأخيرة كانت هناك انتقادات عديدة للرياض فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع الکيان الإسرائيلي.
تظهر حصيلة التطورات أن السعوديين وابن سلمان نفسه يبحثون عن التطبيع، والتعاون الاقتصادي السري للسعودية مع الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة، يتم أيضًا على هذا الأساس. ولذلك، فإن السعودية التي لا تری التطبيع بعيدًا، وتريد من خلال اختيار سفير إعداد الفلسطينيين والرأي العام للعالم العربي تدريجياً، للإعلان الرسمي عن عملية التسوية في المستقبل القريب، لتقليل الضغط عن الرياض.
في الأشهر الأخيرة، ناقشت الرياض وواشنطن الشروط السعودية الجديدة للتقدم نحو التطبيع، بما في ذلك الضمانات الأمنية والمساعدة في بناء برنامج نووي مدني قادر على تخصيب اليورانيوم، لذا، يستعد السعوديون لتطبيع العلاقات مع تل أبيب، وباختيارهم سفيرًا في القدس، يريدون خلق نوع من التوازن بين فلسطين والکيان الإسرائيلي.
لأن مستوى التوترات بين فلسطين وتل أبيب قد تصاعد، والرأي العام في العالم العربي أظهر أيضًا في مونديال 2022 في قطر أنهم ضد أي نوع من التطبيع، وبالتالي لا يريد السعوديون المجازفة وقبول خزي التطبيع بين شعوب المنطقة.
وتماشياً مع رؤية 2030، يخطط ابن سلمان لتحسين الوضع الاقتصادي للسعودية في المنطقة والعالم، ويتطلع إلى الدعم المالي من الصهاينة لبناء مدينة الأحلام "نيوم" وغيرها من المشاريع الاقتصادية.
وفي العامين الماضيين، سافر عدد من رجال الأعمال الإسرائيليين إلى السعودية للتشاور حول الاستثمار في هذه المشاريع، وحسب الإعلام الصهيوني، فقد قرر ابن سلمان إنشاء محطة اتصال بين السعودية و"إسرائيل" من خلال مشروع نيوم، لتكون جسرًا لتطبيع العلاقات بينهما في المستقبل القريب.
غضب الصهاينة
حكومة نتنياهو المتشددة، التي لا ترغب في تقديم أي تنازلات للفلسطينيين وتفكر حتى في طرد الفلسطينيين من أرضهم، غاضبة للغاية من قرار السعودية.
وقال إيلي كوهين، وزير خارجية الاحتلال، ردًا على تعيين السفير السعودي في فلسطين وقرار الرياض إنشاء قنصلية في القدس المحتلة: "تل أبيب لا تسمح بإقامة أي تمثيل دبلوماسي للسعودية في رام الله والقدس، السعوديون يريدون توجيه رسالة للفلسطينيين بأنهم لم ينسوهم، لكننا لا نسمح للدول بفتح قنصليات، هذا مخالف لرأينا، لم تكن قضية فلسطين هي القضية الرئيسية في محادثات التطبيع".
كما اعتبرت وسائل الإعلام العبرية هذه الخطوة من جانب الرياض، خطوةً تاريخيةً ورسالةً من السعودية لـ"إسرائيل" مضمونها أن أي اتفاق للتطبيع مشروط بمعالجة القضية الفلسطينية.
ويؤكد الصهاينة أن قضية فلسطين يجب ألا تدخل في المفاوضات بين السعودية والولايات المتحدة بشأن تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، لكن السعودية ربطت أي تقدم في هذا المجال بالقضية الفلسطينية.
وقال مسؤول إسرائيلي لموقع عرب 48: "للسعوديين مطالب كبيرة في هذا الصدد، ويريدون منا تنفيذها بشكل حقيقي، لكن في الهيكل الحالي للحكومة الإسرائيلية، ليس لدينا ما نقدمه لهم في هذا الصدد، لن يتوقف الاستيطان أبدًا، ولا حتى ثانية واحدة".
بالنظر إلی الموقف الصهيوني المتشدد تجاه المطالب السعودية في عملية التطبيع، يبدو أنه إذا تمسك حكام الرياض فعلاً بتشكيل الدولة الفلسطينية باعتباره مطلبهم الأساسي في طريق التطبيع، فيمكن القول إن التسوية مع تل أبيب لن تتحقق في الوضع الحالي، لأن اليمين المتطرف ليس على استعداد للتسامح في هذا المجال، وهذا حاجز كبير أمام التطبيع.
وبالنسبة للسعودية أيضًا التي تعتبر نفسها زعيمة العالم العربي، فإن شروط دعم فلسطين هي قضية أساسية ولا يمكنها التراجع عن خطتها للسلام، لأنه في هذه الحالة ستتضرر صورة السعودية في العالم العربي.
في الوضع الذي أصبح فيه الحديث عن تطبيع العلاقات بين السعودية والکيان الصهيوني والتكهنات في هذا الصدد، أحد الموضوعات الرئيسية لوسائل الإعلام في الأسابيع القليلة الماضية، لكن المصادر والدوائر العبرية ما زالت تتحدث عن المعوقات والتحديات التي تضر بعملية التطبيع بين الرياض وتل أبيب.
ومن الشروط الجديدة التي وضعتها السعودية على طاولة المفاوضات مع الأمريكيين لاتفاقية التطبيع، هي قضية تخصيب اليورانيوم، لكن الکيان الصهيوني عارض هذا المطلب حتى الآن، وليس على استعداد لتقديم تنازلات للجانب السعودي.
وقال نتنياهو في خطاب ألقاه مؤخراً، أثناء دعمه لتطبيع العلاقات مع السعودية: "لست مستعداً لتعريض أمن "إسرائيل" للخطر لتحقيق ذلك".
الکيان الصهيوني، بصفته المالك الوحيد للأسلحة النووية في المنطقة، قلق من حصول الدول العربية على الطاقة النووية، ويحاول الحفاظ على هذا التوازن لصالحه.