الوقت - تعاني مصر منذ عام 2011 من أوضاع اقتصادية غير عادية نتيجة ظروف استثنائية تمر بها المنطقة والعالم. ولأن للاقتصاد الكلمة العليا في رسم السياسات الكبرى للبلاد تناول تقرير الإيكونوميست المنشور في 16 من الشهر الجاري عن الأوضاع في مصر، بشكل تلقائي صناع السياسة الرئيسين في هذا البلد.
اعترف تقرير الإيكونوميست بداية بأهمية مصر الاستراتيجية في المنطقة إذ جاء فيه: "مصر، باعتبارها أكبر بلد عربي، تلعب دوراً مركزياً في مستقبل المنطقة، فإذا نجحت، فإن الشرق الأوسط سيظهر أقل قتامة، وإذا ما فشلت فسيصبح أكثر دمامة".
كما أثنى التقرير على مجموعة من الإصلاحات التي شهدها عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومنها: تقليل الاختناقات المرورية، والعمل على تسريع التحول الرقمي في تقديم الخدمات الحكومية، وتراجع قوائم الانتظار في المستشفيات، لكن ما لبث التقرير أن بدأ بالانعطاف والاستدارة ليصل بعد سرد الواقع الاقتصادي إلى أن المصريين ساخطون على أداء قيادتهم السياسية.
فقد ذكر أن الدين الخارجي تضاعف، مدعياً خروج الكثير من رأس المال الخارجي، وأن المستثمرين الأجانب سحبوا أصولاً بقيمة 20 مليار دولار العام الماضي، لافتاً إلى فقدان الجنيه المصري خمسة أسداس قيمته مقابل الدولار، وأن هناك أزمة تتعلق بشح العملة الصعبة، ما اضطر مصر لتأجيل دفع ثمن القمح، وأن تسديد الديون الكبيرة معلق.
كما ورد في التقرير أن التضخم بأسعار الغذاء وصل إلى 60 بالمئة، وأن الاقتصاد المصري في طريقه نحو الانهيار، على الرغم من المشروعات العملاقة، كبناء قناة السويس الثانية، وعشرين مدينة جديدة، وسكك حديدية بتكلفة 23 مليار دولار، ومئات الطرق والعاصمة الإدارية الجديدة بتكلفة 58 مليار دولار.
ووصل التقرير إلى أن الرئيس المصري عجز عن احتواء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة بالبلاد.
إن استهداف التقرير المباشر أركان القيادة المصرية ولا سيما الرئيس السيسي، أثار استياءً وغضباً كبيراً في مصر دفع الهيئة العامة المصرية للاستعلامات في أولى خطوات الرد لاستدعاء مراسل مجلة "الإيكونوميست" لتسليمه خطاب احتجاج على ما ورد في التقرير، وبعدها أصدرت الهيئة بياناً مطولاً تفند فيه ما ورد فيه جملة وتفصيلاً.
وذكرت الهيئة العامة للاستعلامات في بيان الرد أن التقرير منحاز ويتعمد الإساءة والتشويه، وفيه ادعاءات ومعلومات مغلوطة تنم عن عدم دراية بما يحدث في مصر، وأنه انتهك كل قواعد وأخلاقيات العمل الصحفي بأقاويله المرسلة المعتمدة على مصادر مجهولة، وإلقاء الاتهامات جزافاً، ونشر أرقام وبيانات خاطئة دون الاستناد إلى أي مصدر، كما أنكرت على التقرير أنه لم يلجأ لأي جهة مصرية لمراجعة ما تضمنه قبل النشر.
وأشارت الهيئة إلى أن التقرير أسهب في استخدام الأرقام والبيانات الاقتصادية دون ضوابط أو مصادر، فأرقام التضخم في مصر معلنة وليست 60%، أو أن نصف المصريين فقراء، وأن المساعدات الخليجية لمصر (100) مليار دولار، وتكلفة العاصمة الإدارية (58) ملياراً، وخطوط السكك الحديدية (23) ملياراً، وغير ذلك، دون الإشارة إلى أي مصدر مصري أو دولي يؤيد الأرقام.
وأوضحت هيئة الاستعلامات أن ما ورد في التقرير وقائع مختلقة، وأكاذيب واضحة، منها أن الرئيس "أيَد إصلاح المبادئ القرآنية التي من شأنها أن تمنح المرأة نصف حصة الرجل من الميراث"، فلم يطالب الرئيس بذلك، بل على العكس تم تجريم حرمان المرأة من الحصول على حقها ونصيبها في الميراث وفق الشرع.
كما فندت الهيئة زعم التقرير "أن المستثمرين الأجانب سحبوا 20 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي بسبب تضاؤل الثقة في بيئة الأعمال، ما أدى إلى هروب رأس المال"، مبينة أن ذلك غير دقيق وتفسيرات فاسدة، فخروج الأموال تم العام الحالي، والسبب هو تداعيات جائحة "كورونا" ثم الحرب الروسية الأوكرانية وما ترتب على ذلك من سياسات مالية ونقدية متشددة من جانب الأسواق المالية الكبرى، ما أدى إلى نزوح الأموال من الأسواق الناشئة والدول النامية – وليس مصر فقط – إلى الأسواق.
وقالت الهيئة: إن التقرير يشير إلى أن "تكلفة مضادات الاكتئاب قد تضاعفت منذ شهر أبريل" وهي عبارة أشبه بالعبارات الـمتهافتة على بعض صفحات التواصل الاجتماعي، فمن أين جاء بالأسعار التي تضاعفت خلال أقل من شهرين؟! وأية أصناف من الأدوية تحديداً؟! ولماذا مضادات الاكتئاب دون غيرها؟ إنه تلميح رخيص لا يليق بمجلة متخصصة.
وتابعت الهيئة في بيانها: إن أكثر الادعاءات افتضاحاً هو الزعم بأن مصر قد تفكر في تأجير قناة السويس لمدة 99 عاماً مقابل تريليون دولار، وهو بذلك يكرر شائعة العقد المزور الذي تم افتضاح أمر تزويره أمام العالم كله قبل عدة شهور.
وذكرت الهيئة أن الزعم بوجود (60) ألف سجين لأسباب سياسية، ودون الرجوع لأي مصدر، هو مجرد تكرار لزعم كاذب لا دليل عليه، إذ لا وجود لما يطلق عليه "سجين لأسباب سياسية" في مصر ولا في القانون أو القضاء.
وأشارت الهيئة إلى أن التقرير يتحدث عن منصب الرئاسة المصرية بهزل سخيف مهين لإرادة شعب مصر، فالانتخابات الرئاسية لم يتم فتح باب الترشح لها حتى الآن، وعندما يحدث فإن كل من تنطبق عليه الشروط التي حددها القانون يمكنه الترشح، وعندئذ فقط يمكن للمجلة نشر أسماء المرشحين فعلياً، والتكهن بحظوظ أي منهم في نظرها، أما قبل ذلك، فهو قفز فوق الدستور والقانون وإرادة الشعب، والحديث بهذا الأسلوب عن مصر ومنصب الرئاسة فيها هو تجاوز مرفوض.
وأضافت الهيئة: إن من بين الافتراءات الأخرى في تقرير المجلة البريطانية هي وصف الحوار الوطني بأنه "خدعة قديمة"، وأن "المشاركين تم اختيارهم بعناية" وأنه "مجرد تمثيلية"، وأن الحديث المتاح أمام المشاركين هو "بضع دقائق"، وأنه تم استبعاد هيئات مثل "جماعة الإخوان"، وجميعها افتراضات غير صحيحة، تناقض الواقع جُملةً وتفصيلاً.
ولفتت الهيئة إلى أن الحوار الوطني تم بدعوة من السيد رئيس الجمهورية، ويبلغ عدد الأحزاب المشاركة فيه (65) حزباً وتياراً سياسياً تمثل جميع التيارات والاتجاهات السياسية في البلاد، فلم يرفض أي حزب أو تيار سياسي المشاركة في هذا الحوار. وأن مجلس أمناء الحوار يضم 20 عضواً يعبرون عن كل الاتجاهات في البلاد، ولجانه تضم 44 من المقررين ومساعديهم، تمثل فيها كل التيارات الحزبية والنقابية والشعبية والمجتمعية والخبراء والمتخصصين والشباب والمرأة وكل فئات المجتمع، وهو حوار مستقل يدير نفسه بنفسه دون تدخل من أي من سلطات الدولة، وتشير الأرقام الخاصة بالحوار حتى الآن إلى حقيقة وجدية هذا الحوار الوطني وأهدافه ونتائجه.
فلم يترك رد الهيئة نقطة في تقرير الإيكونوميست دون الوقوف عندها وتفنيدها، فهل سيكون أمام المصريين مواضيع كثيرة للرد عليها، ولا سيما أن الحالة المصرية تتطلب من الجميع التفكير خارج الصورة النمطية واجتراح الحلول الإبداعية للنهوض؟