الوقت- لطالما كان منطق النظام الفوضوي العالمي يدعوا إلى خلق أقل التزام للحكومة الأمريكية في سياساتها الخارجية وهذا الامر جعل المبادئ الإستراتيجية للولايات المتحدة، تضع الدول الاخرى على جدول أعمالها وعلى هذا الاساس كانت سياسة البيت الأبيض في فترة ولاية الرئيس "دونالد ترامب"، تعتمد على الانسحاب من الاتفاقيات الدولية والخروج من عدد من المنظمات الدولية ولكن في خطوة غير مسبوقة فرضت إدارة الرئيس الأمريكي يوم الخميس الماضي، عقوبات غير مسبوقة على المحكمة الجنائية الدولية في "لاهاي"، وكذلك المّدعين العامين ومفتشي حقوق الإنسان الذين يشاركون في أي جهد للتحقيق أو محاكمة الأفراد الأمريكيين بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وعلى صعيد متصل، قال المكتب الصحفي بالبيت الأبيض في بيان يوم الخميس الماضي، إن الرئيس "دونالد ترامب" أذن أيضًا بتوسيع قيود التأشيرة ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وأفراد أسرهم ، وقد هددت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا بفرض عقوبات على المحكمة التي تتخذ من لاهاي مقرا لها ، وأكدت أن ليس لها الحق في التحقيق أو محاكمة الأفراد الأمريكيين دون موافقة واشنطن. ووصف المتحدث باسم البيت الأبيض إجراءات المحكمة بأنها اعتداء على حقوق الشعب الأمريكي وتهديد بالتعدي على السيادة الوطنية الأمريكية. وأضاف أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت لتوفير المساءلة عن جرائم الحرب لكنه قال، "في الممارسة العملية، أصبحت غير خاضعة للمساءلة وغير فعالة". وقد أثارت جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في مزاعم جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين وأيضا تلك المجازر التي ارتكبها الجنود الأمريكيين في افغانستان والعراق غضبًا من إدارة "ترامب".
أسباب فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية
كشفت العديد من المصادر الاخبارية أن خلفية هذه الأزمة تعود إلى مارس الماضي، حينما أعطت المحكمة الجنائية الدولية الضوء الأخضر للتحقيق في جرائم حرب محتملة وجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان بين عامي 2003 و2014، بما في ذلك جرائم ارتكبتها القوات الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية. وتمثل هذا الخطوة أحدث إجراءات الإدارة الأمريكية ضد المنظمات والاتفاقيات الدولية، وهو ما شمل حتى الآن اتفاق باريس للمناخ، واتفاق نافتا للتجارة الحرة في أمريكا الشمالية، واتفاقيات دولية أخرى.
الجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية أعلنت رفضها لقرار "ترامب"، بفرض عقوبات على عدد من مسؤوليها، ووصفت هذا الأمر بأنه يصل إلى حد التهديد والإكراه، وأنه محاولة غير مقبولة للتدخل في حكم القانون. وقالت الجنائية الدولية إنها تساند موظفيها ومسؤوليها ووصفت العقوبات الأميركية بأنها أحدث هجوم في سلسلة هجمات غير مقبولة على المحكمة. ويتعلق التحقيق الذي تسعى إليه المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية "فاتو بنسودا" بتجاوزات ارتكبها جنود أمريكيون في أفغانستان حيث تقود الولايات المتحدة منذ 2001 أطول حرب في تاريخها. ورفعت إليها ادعاءات بالتعذيب تستهدف وكالة المخابرات المركزية. ولقد أثار القرار الصادر عن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية والمسؤولين فيها، سلسلة من الانتقادات الدولية لما تمثله الخطوة من تدخل في حكم القانون. وعبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه البالغ من الإجراءات التي أعلنت عنها واشنطن. كما أبدت الأمم المتحدة موقفا مشابها، وقالت إنها ستتابع المسألة. وقال "ستيفان دوجاريك" المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: "لقد لاحظنا بقلق هذه التقارير حول الأمر التنفيذي الذي يجيز عقوبات ضد أفراد معينين في المحكمة الجنائية الدولية". أضاف "ندرك أنه كانت هناك تصريحات سابقة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن أي قيود مفروضة على الأفراد سيتم تنفيذها بشكل متسق مع التزامات الدولة المضيفة بموجب اتفاقية مقر الأمم المتحدة".
وعلى صعيد متصل، كشفت العديد من المصادر الاخبارية، أن الرئيس "ترامب" هاجم مراراً المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت في "لاهاي" لمحاكمة جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. ولا تتمتع بالاختصاص القضائي إلا إذا كانت دولة عضو غير قادرة أو غير راغبة في مقاضاة هذه الجرائم بنفسها.وقال وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" يوم الخميس الماضي، خلال مؤتمر صحافي في مقر الخارجية في واشنطن، إن "واشنطن لن تسمح بأن تهدد محكمة صورية، جنودها"، مؤكداً في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. وأضاف "لن نقف مكتوفي الأيدي بينما يتعرض مواطنونا للتهديد من محكمة صورية". وأضاف "بومبيو"، أن "العقوبات قد تمتد لتشمل أفراد أسر مسؤولي المحكمة لمنعهم من زيارة الولايات المتحدة". وقال: "لن نقف مكتوفي الأيدي بينما يتعرض مواطنونا للتهديد من محكمة صورية". وتابع: "لسنا جزءاً من المحكمة الجنائية الدولية". كما حذر من قرارات المدعية الدولية "ضد إسرائيل"، قائلاً: "المحكمة الجنائية الدولية تريد مقاضاة إسرائيل وهذه إهانة للعدالة". وأضاف أن "إسرائيل صديق حميم لنا ولا يمكن للجنائية الدولية محاكمة من يدافع عن نفسه".
جرائم الحرب الوحشية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان
إن معارضة التحقيقات الدولية في جرائم الحرب من قبل الجيش الأمريكي وحلفائه في أفغانستان، تكشف عن مجموعة واسعة من الحقائق التي تريد الحكومة الأمريكية إخفاءها، والتي تؤكد أن الجيش الأمريكي ارتكب خلال احتلاله لأفغانستان الكثير والكثير من الجرائم الوحشية في حق أبناء الشعب الأفغاني الفقير. وحول هذا السياق، كشفت العديد من التقارير أن الحقيقة الكاملة عن جرائم الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال في أفغانستان، أكبر مما يتم تسريبه ونشره، ومع ذلك تمت رؤية حجم الارتباك والهلع الذي انتاب الإدارة الأمريكية، من نشر بعض الوثائق التي تم فيها مراعاة الجانب الأمني وتهديد حياة الجنود وتعرض حياة الجنود والأمن القومي الأمريكي للخطر ! كما ورد في الصحف الأمريكية والالمانية والبريطانية التي نشرت هوامش من تلك الوثائق وليس الحقائق كاملة . وقد سارع وزير، العدوان الأمريكي، "روبرت غيتس"، إلى التعبير عن خطورة النشر، وتهديده لحياة الجنود وما وصفه بالأمن القومي الأمريكي.
لقد كشفت الوثائق المسربة عن حجم وكيفية قيام قوات الاحتلال بقتل مئات المدنيين، إن لم يكن الآلاف في حوادث لم يتم الاعلان عنها، وعن تصاعد هجمات المجاهدين الأفغان، وفي مقدمتهم طالبان، ضد الاحتلال البغيض لبلادهم . ومحاولة اتهام باكستان وايران بدعم المجاهدين، يكشف أيضا عن الأعداء لا يفرقون بين المسلمين، وتقسيمهم إلى متطرفين ومعتدلين، ليس سوى تكتيكا لتفريقهم، وضرب بعضهم ببعض، وإلا فإن استهدافهم جميعا هو الاستراتيجية النهائية للتعاطي معهم. إن ما نشرته، "ذي غارديان" البريطانية و"نيويورك تايمز" الأمريكية و"دير شبيغل" الألمانية، من ملفات وسجلات بلغ عددها 90 ألفا، ليس سوى قطرة من بحر جرائم الإبادة المرتكبة بحق الشعبين الأفغاني والعراقي .وإذا كانت بريطانيا قد فقدت أكثر من 320 جنديا، وزاد عدد القتلى الأمريكان عن الألف جندي، فإن عدد الضحايا الافغان من المدنيين يعدون بشكل غيبي، مئات أو آلاف، كما لو أن حصرهم غير ذي جدوى، أو لا يكتسي أيه أهمية، وهي جريمة أخرى بحق الانسانية، ترتكبها قوات الاحتلال وحكوماتها.
الآثار غير الفّعالة للعقوبات المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية
أن فرض الولايات المتحدة عقوبات جائرة على المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، يؤكد بما لا يدع للشك مجالا بأن الحكومة الأمريكية ستفعل كل ما في وسعها لمنع إجراء أي تحقيق في وقائع الحرب في أفغانستان. وهنا يمكن القول بأنه لن يكون لهذا العقوبات أي ثمار، بل على العكس من ذلك سوف يكون لها تأثيرات عكسية على الإدارة الأمريكية.
بادئ ذي بدء، معظم قضاة المحكمة الجنائية الدولية هم أناس مشهورون عالمياً، ودورهم كان تحفيز الضمير الإنساني أكثر من اكتساب الثروة ونادرًا ما يكون لديهم أصول كبيرة في حسابات مصرفية أمريكية أو عقارات كبيرة. وبالمثل، من غير المحتمل أن يكون لدى ضحايا الجرائم في أفغانستان الذين تعاونون مع هؤلاء المفتشين أو شهدوا في محكمة العدل الدولية خلال السنوات الماضية، أملاك أو عقارات قابلة للمصادرة من قبل الإدارة الأمريكية. ومن ناحية أخرى، لن يتطلب البحث الفّعال عن الجرائم التي وقعت في أفغانستان منذ أكثر من عقد من الزمان التواجد على أراضي الولايات المتحدة، بل يمكن تتبع مبدأ تلك الجرائم الوحشية في أفغانستان.
وأخيرًا، فإن فرض عقوبات ضد موظفي المحكمة الجنائية الدولية، سوف يقوض ويُضعف في نهاية المطاف واحدة من أكثر الأدوات استخدامًا والأكثر أهمية للسياسة الخارجية الأمريكية. إن هذه العقوبات التي يعتبرها المجتمع الدولي غير قانونية لا يمكن أن تؤدي إلى التعاون الدولي ولهذا فلقد قالت المحكمة الجنائية الدولية في بيان إن هذه الخطوة الأمريكية "محاولة غير مقبولة للتدخل في القانون والإجراءات واعتداء على مصالح ضحايا الجرائم، الذين تعتبر المحكمة بالنسبة لهم الأمل الأخير لتحقيق للعدالة".