الوقت- فور انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في الفترة بين 1985 و1991 ، واعلان المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة انتصاره في الحرب الباردة على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، كانت مراكز الابحاث الغربية و في مقدمتها الامريكية، منهمكة في تحديد هوية العدو الجديد للغرب، وهذا العدو لم يكن سوى "الاسلام".
الاعلان عن "الاسلام" بأنه العدو الاول للغرب ، لم يكن اعلانا متسرعا او مفاجئا ، فالغرب كان ومازال ينظر للاسلام على انه "عدو" ، ونازل هذا العدو في اكثر من نزال ، كما في مرحلة الاستعمار وتقسيم المناطق الاسلامية الى دول صغيرة ، وما الصراع بين الصهيونية والعالم الاسلامي الا جانبا من هذه المنازلة ، الا ان الغرب لم يشر الى هذا "العدو" بالاسم كما يشير الان ، وتبدو الظروف اصبحت مواتية للاعلان عن هذا "العدو" وبشكل مباشر ومحدد.
سبب امتناع الغرب عن الاشارة الى الاسلام وبشكل صريح و واضح بانه "عدو"، كان انشغاله ب"العدو الشيوعي" الذي كان يشكل خطرا عسكريا داهما، وليس "خطرا حضاريا" كما هو الاسلام، لذلك كان لابد من التعامل مع الخطر الشيوعي بشكل اكثر خشونة وصلابة، وعدم فتح جبهات اخرى او تسخينها، لحين الانتهاء من "الخطر الشيوعي"، لذلك وبعد ازالة هذا الخطر ، كان لابد من تسخين "الجبهة" الغربية مع الاسلام ، وهي جبهة لم تكن يوما ما هادئة او باردة ، الا انها كانت مستترة في ظل الحرب الباردة.
حرب الغرب على الاسلام، تختلف كثيرا مع حرب الغرب مع الشيوعية، فالاسلام لم يشكل خطرا عسكريا على الغرب، الا انه حمل في داخله خطرا مميتا للغرب، بسبب البعد الانساني والحضاري للاسلام ، لذلك كان سلاح الغرب في مواجهة الاسلام يختلف كثيرا عن سلاح الغرب في مواجهة الشيوعية.
لما كان الاسلام يشكل خطرا بالقوة على الحضارة الغربية، لما في الاسلام من عناصر قوة هائلة، تتفجر عنفوانا في حال توفرت لها الظروف المناسبة ، ولذلك ومن اجل الحيلولة دون الوصول الى مثل هذه الظروف ، زرع الغرب الكيان الصهيوني في قلب العالم الاسلامي ، ليكون قاعدة عسكرية متقدمة له لضرب كل عناصر القوة في الامة ، كما نصب الغرب حكومات عميلة في البلدان العربية والاسلامية من اجل تسهيل عملية نهب ثروات المسلمين وفي مقدمتها النفط ، وبذلك يكون الغرب قد وأد كل احتمال لايجاد نهضة تنموية يمكن ان تتشل المسلمين من واقعهم المزري.
الكيان الصهيوني، ونهب ثروات المسلمين، هما اهم اسلحة الغرب في ضرب المسلمين والابقاء عليهم في حالة من التبعية والضعف ، لذلك يرى الغرب في "امن " الكيان الصهيوني و تدفق النفط العربي الرخيص خطوطا حمراء لا يحق لاي كان تجاوزها ، فكل الحروب والتدخلات الامريكية في منطقة الشرق الاوسط كانت بهدف المحافظة على "امن" الكيان الصهيوني، واستمرار ضخ النفط الرخيص للغرب دون ادنى تهديد.
"امن" الكيان الصهيوني، واستمرار تدفق النفط الرخيص وكل المصالح الامريكية الغربية غير المشروعة في منطقة الشرق الاوسط تعرضت لخطر كبير مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 ، الثورة التي اقتلعت اكبر قاعدة امريكية في الشرق الاوسط والمتثلة بنظام الشاه في ايران ، واوقفت عملية نهب الثروة النفطية للشعب الايراني من قبل الشركات الامريكية والغربية ، و اغلقت السفارة الاسرائيلية في طهران وطردت السفير الاسرائيلي وافتتحت اول سفارة لفلسطين ، ونقلت القضية الفلسطينية من دائرتها العربية الضيقة الى الدائرة الاسلامية الارحب، جاعلة من تحرير فلسطين هدفا من اهدافها.
هذا الخطاب الايراني الثوري والذي الهم شعوب العالمين العربي والاسلام ، هدد وبشكل كبير الخطوط الحمراء الامريكية والمتمثلة ب"امن" اسرائيل وتدفق النفط العربي والاسلامي الرخيص للغرب ، لذلك فرضت امريكا حربا على الجمهورية الاسلامية في ايران استمرت ثماني سنوات ، واخذت المختبرات الامريكية والغربية ، بالتزامن مع الحرب الصدامية الظالمة على ايران ، في انتاج سلاح في غاية الخطورة وهو سلاح "الضد النوعي" ، او السلاح الطائفي بهدف ابعاد الاخطار التي يمكن ان تهدد "امن" اسرائيل وتدفق النفط ، فكان هذا هو "القاعدة" وباقي المجموعات التكفيرية التي ظهرت منذا انتصار الثورة الاسلامية وحتى يوما هذا.
"القاعدة" ، التي صنعتها الوهابية و المال السعودي والاستخبارات الباكستانية والخطط الامريكية ، وما خرج من رحمها من منظمات تكفيرية ، من بينها "النصرة" و "داعش" ، كان هدفها الاول والاخير اشعال فتن سنية شيعية، وتقسيم ما هو مقسم، بهدف الحفاظ على "امن" اسرائيل ومواصلة نهب ثروات شعوب المنطقة.
التنظيمات التكفيرية التي تفتك اليوم بالعراق وسوريا وليبيا ومصر ولبنان وتونس والجزائر ومالي ونيجيريا والصومال وباكستان وافغانستان والكثير من الدول الاخرى ، غايتها تقسيم هذه الدول على اساس طائفي وعرقي ، وقد بدات حدود هذه التقسيمات تتضح يوما بعد يوم ، فقبل ايام نقلت وسائل اعلام امريكية توقعات لعراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر ، حول مصير سوريا ، في محاضرة القاها في معهد "جيرالد فورد للسياسة العامة" ، حيث قال كيسنجر: "هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض وهذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق".
هذه الفكرة، فكرة تقسيم دول المنطقة الى دويلات قائمة على اسس عرقية وطائفية ، يوجد لها صدى في الكيان الصهيوني ، فقد نشر رئيس تحرير صحيفة "هآرتز" "ألوف بن" مقالاً قال فيه: "لن تكون إسرائيل بمنأى عن تأثيرات تفكك الدول المجاورة لها، سيما الأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية، حيث يمكن لإسرائيل أن تتبنى سياسة ذكية تمكنها من تحديد الفرص الكامنة لانبثاق دول جديدة، وتساعدها على استغلال هذه الفرص، وتجعلها قادرة على احتواء عملية التحول الحتمي بهدف تعزيز قوتها ونفوذها في المنطقة".
يبدو ان الفوضى الخلاقة التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، اخذت، وبفضل المجموعات التكفيرية، تضرب اليوم بقوة كل شيء في منطقة الشرق الاوسط ، الا اسرئيل والنفط، فهما من مقدسات هذه الفوضى، التي لا تهدف الى رفع العزلة عن اسرائيل فحسب، بل جعلها الاقوى بين الجميع، ولا تهدف الى نهب ثروات شعوب المنطقة فحسب ، بل وحرمانها من بناء نهضة اقتصادية يمكن ان تنقل دولها الى مصاف الدول النامية ، وقبل كل هذا وذاك تهدف الى تشويه صورة الاسلام واظهاره بمظهر الدين المتخلف والعنيف والمتناقض مع الحياة الانسانية، ليسهل بالتالي هزيمته والانتصار عليه ، وبذلك يكون الغرب قد ضرب اكثر من عصفور بحجر واحد .. وهو حجر المجموعات التكفيرية.
ولكن حساب الحقل لاينطبق دوما مع حساب البيدر، صحيح ان الغرب والصهيونية قد خططا وبشكل محكم هذه المرة للنيل من الاسلام، الا ان التجربة التاريخية اثبتت ان الاسلام انتصرعبر تاريخه الطويل على مؤامرات اكبر واضخم واخطر من مؤامرة المجموعات التكفيرية، وفي اكثر مراحل المسلمين ضعفا وتراجعا، كما حدث خلال غزو المغول والتتار والعثمانيين والاستعمار الغربي وفي ظل الحكومات والانظمة المستبدة ، لذا فمن الصعب جدا ان تنتصر هذه المرة مؤامرة الغرب ضد الاسلام والمسلمين باستخدام المجموعات التكفيرية، والمسلمون اليوم اكثر وعيا من ذي قبل ، ويعرفون كما يعرف غيرهم، ان المجموعات التكفيرية لا تمثل الا نفسها، وما هي الا نتوءا مرضيا زُرع في الجسد الاسلامي، ما اسرع ان يلفظه هذا الجسد لغرابته وشذوذه، وهو ما بدا واضحا من الصحوة التي تعيشها الشعوب الاسلامية التي اخذت تستعيد الثقة بنفسها، عبر رفضها طائفية المجموعات التكفيرية وسلوكياتها الغريبة والشاذة عن تعاليم الاسلام، كما في سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر وتونس.