الوقت- تلعب تركيا دورًا مثيرًا للدهشة في القضية السورية، والرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الذي كان نصب نفسه مدافعًا عن حقوق الشعوب والمطالب بحريتها بدى مصداقًا للآية "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ"، فالداخل التركي يختلف تمامًا عن الشعارات التي يطرحها "أردوغان" في المحافل السياسية وخاصة فيما يتعلق بالملف السوري.
على ما يبدو فإن "أردوغان" نسي الوضع الداخلي المتأزم الذي يعيشه الشعب التركي في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد، والذي حرم الناس من أبسط حقوقهم وضيق على المؤسسات والأحزاب التي باتت غير قادرة على التعبير عن رأيها إزاء سياسة البلاد، وكلنا يذكر اعتقال السلطات التركية آواخر العام الفائت رئيس تحرير صحيفة "زمان"، "أكرم دومانلي" و"هدايت كاراجا" رئيس مجموعة "سامان يولو" الإعلامية بالإضافة إلى مجموعة من الصحفيين والكتّاب وكتاب السيناريو ومخرجين الأتراك، كما واعتقل الأمن التركي في وقت آخر الصحفية الهولندية "فردريك جاردينك" التي تعيش في مدينة ديار بكر جنوب شرق البلاد وكذلك الصحفي "محمد أولجر".
الاعتقالات والمضايقات على الصحافة التركية كثيرة حتى أن الاتحاد الأوربي انتقد "أردوغان" بسبب تضييقه الخناق على الصحافة التركية، فكان رد "أردوغان"؛ "نحن نتخذ هذه الخطوات ولا نهتمّ بما سيقوله الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن أو سيقبلنا في عضويته أم لا"، في دلالة واضحة على النهج القمعي والتعسفي الذي يلجأ إليه الرئيس التركي.
صحيفة "جمهوريت" أيضًا تعرضت لمداهمات عديدة من قبل السلطات التركية وذلك بسبب تسليطها الضوء على دعم حكومة حزب العدالة والتنمية للجماعات المسلحة في سورية، وفسرت الصحيفة المضايقات الحكومية بقولها "إنهم خائفون من الحقائق التي تكتبها جمهوريت والفساد الذي تفضحه"، وضمن سياسة التضييق على الصحافة والإعلام أمر أردوغان بإغلاق العديد من مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها "فيسبوك" و"تويتر".
السياسة التركية التي يعتمد عليها "أردوغان" تهدف إلى قيام نظام دكتاتوري ثابت في البلاد، وما يشير إلى ذلك أنه فور وصول "أردوغان" إلى الحكم واستلامه لرئاسة الوزراء عام 2003 قام بدأ بالسعي إلى السيطرة على كامل زمام الأمور وذلك بالتخلص من سلطة الجيش التركي الكبيرة، فرفض تقديم ترقيات للعديد من الضباط الذين اعترضوا واستقالوا بعد ذلك وهم أكبر أربع قادة في الجيش (القائد البري والبحري والجوي ورئيس الأركان)، وعين "أردوغان"، "نجدت أوزل" رئيسًا للأركان، وأرسل الضباط المستقيلين للمثول أمام المحاكم بتهمة تورُّطهم بمحاولات للانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية.
هكذا كانت البداية، استطاع "أردوغان" السيطرة على الدولة مُبعدًا سلطة الجيش التي كان لها تأثير كبير على سياسات تركيا، وبعد ذلك بدأ "أردوغان" يمنع الصحافة الحرة التي تنتقده وتنتقد حكومته ووصل به الأمر إلى أن يصفها بـ"قليلة الحياء"، وفي النهاية ظهرت أطماع "أردوغان" في الاستئثار بالسلطة في الانتخابات البرلمانية التي حاول فيها أن يغير دستور البلاد ويحول النظام في تركيا إلى نظام رئاسي، وذلك بعد أن خرج من رئاسة الوزراء.
حسب القانون التركي فإن دور "أردوغان" في السياسة بعنوانه رئيسًا لتركيا يجب أن يكون محدودًا، والدور الرئيسي هو لرئيس الوزراء "داوود أوغلو"، إلا أننا في الوقت الراهن نرى العكس تمامًا رغم أن "أردوغان" فشل في الحصول على إجماع البرلمان لتأييد خطته وتحويل النظام إلى نظام رئاسي، وهنا علينا أن نتخيل مدى حدود سلطته التي كان سيتمتع بها لو أنه نجح في تطبيق النظام الرئاسي في لبلاد.
من جهة ثانية، يحاول "أردوغان" بكل جهوده الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما يسعى جاهدًا لأن يكون له دور كبير في الملف السوري وأن يحصل على حصة كبيرة من سورية، وكل هذه الأهداف التي يعمل عليها "أردوغان" تخدم خطته في السيطرة على كرسي القيادة في البلاد، فهو بحاجة لأن يظهر كبطل قومي كبير حتى يستطيع أن يبرر بقاءه في السلطة ويغطي على طموحاته الدكتاتورية.
يبدو أن "أردوغان" يحاول أن يبرز نفسه في الساحة الإقليمية على أنه المدافع عن الشعوب ومحامي الحريات، إلا أنه في الداخل التركي أثبت على أنه قاتل الحريات، وكل ما يسعى إليه هو الاستئثار بالسلطة حتى ولو كانت على حساب سمعة تركيا وهيبتها، وحتى لو كان الشعب التركي هو الضحية.