الوقت - أن نبحث عن الثقافة التی نرید لنا ولأبناءنا والأجیال القادمة هذا یعنی أننا نقوم بأعظم وأخطر عملیة بحث وتدقیق على الاطلاق، لأن نتیجة هذا البحث تتعلق بحاضرنا ومستقبلنا وعزتنا الإنسانیة والأهم، آخرتنا وسعادتنا، «إذ أن ثقافة أی مجتمع هی التی تحدد أساساً هویة ذلک المجتمع ووجوده، فإذا انحرفت الثقافة فإن المجتمع یکون أجوفاً فارغاً، مهما حقق من القوة فی الجوانب الاقتصادیة والسیاسیة والصناعیة»[1].
وعندما یکون الحدیث عن الثقافة التی تنجی فی الدنیا والآخرة فهذا یعنی أن هذه الثقافة لا یمکن أن تکون ذات صناعة بشریة محضة، أو من منطلقات مادیة، بل لا بد لها أن تتشکل فی کل تنوعاتها وجوانبها وعمقها وسطحها من عمق الإسلام عقیدة وفقهاً وفکراً وخلقاً، وأن تُصفَّى عبر مرورها بمصفاة القرآن، وتقارن بسیرة عظماء الدین، الذین کانوا النموذج الراقی والمثال الأعلى للقدوة والاتباع والتقلید، وهم محمد صلوات اللَّه علیه وآله الطاهرین (ع) وأصحابه المنتجبین (رضی اللَّه عنهم)، ومن بعدهم العلماء والفقهاء والأتقیاء «فلو لم یکن الفقهاء الأعزاء موجودین، فلیس من المعلوم ماذا کان سیقدم الیوم من علوم للناس على أنها علوم القرآن والإسلام وأهل البیت (ع)»[2].
فالثقافة التی نبحث عنها تشمل النظرة إلى الإسلام فهماً ووعیاً وعملاً بکل رحابة الإسلام کدین شامل للحریة والعزة الإنسانیة. وکذلک النظرة إلى کل ما فی هذه الحیاة وهذا الوجود أیضاً من منظار الإسلام وروح الإسلام وصفاء الإسلام، سواء کان ذلک سیاسة أم فلسفة أم فکراً أم اقتصاداً، أم ترنیماً وترویحاً وإلى ما هنالک. ونحن نطلق هنا على مجموع الأمرین والنظرتین الثقافة التی نرید.
تأثیر الإمام الخمینی (ره) فی الثقافة الإسلامیة
من هنا ندرک أهمیة وعظمة موقع فکر الإمام الخمینی رضوان اللَّه علیه وتأثیره فی الثقافة الإسلامیة، فالإمام کان من جهة الأقرب فهماً للإسلام المحمدی الأصیل، والألصق بتعالیمه علماً وعملاً، والأکثر إحاطة بعلومه ومسائله، والأصدق فی الاخلاص لقضایاه، والأقدر على التعبیر عن فهمه وعلمه وصدقه من أی أحدٍ آخر ممن سبقه من العلماء الأجلاّء رغم علو شأنهم وسبق فضلهم، کما کان الإمام من الجهة الأخرى العالم والعارف الذی نظر إلى کل مسائل الحیاة وما یحیط بعصره من قضایا حساسة من منظار الإسلام الصافی الذی جعل نظره فی کل شیء نظراً إلهیاً، فلم یکن یرى شیئاً إلا ویرى اللَّه فیه ومعه وقبله وبعده، والأهم، أن الإمام الذی نظر إلى کل الواقع وما یجری حولنا نظرة إلهیة ثاقبة، کان یعبر عن کل ذلک لنا وللأمة والأجیال بکلام النصح والموعظة، وبیان الفصاحة والبلاغة، وبشوق الأب الرؤوف الذی یحب لأبنائه أن یسمعوا ویعوا، وقد وفقه اللَّه تعالى إلى أن یدخل بکلامه القلوب والعقول والضمائر، فلم یترک الإمام مسألة صغیرة أو کبیرة إلا وکان لها من قلمه أو کلامه وقفة تغنی القارىء وتفی السامع، فالیوم إن أردت أن تعلِّم أو تطرق باب أی مسألة کلیة أو فرعیة من شؤون الإسلام فیما خص جوانبه الواسعة والنیرة، فی شؤون الحیاة أو ما خص السیاسة أو الجهاد أو المجتمع أو الاقتصاد أو أی جهة أخرى، فإنک سوف تجد عند الإمام ما یشفی غلیلک، ویبرد لوعتک، ویجعلک تقول: لا أبقانی اللَّه لمسألة لا أجد فیها قبساً من فکر الإمام ونوراً من سناه، فإنک حینئذ تجد فی نفسک وعقلک وقلبک أنک وصلت حیث یریدک اللَّه أن تصل، فیطمئن القلب ویستقر البال ویهدأ الخاطر.
المنهج الشامل
ونحن عندما نتحدث عن فکر الإمام فإننا نتحدث عن منهج شامل لا یفوته شیء، فضلاً عن أنه منهج حی ومعاصر یعالج القضایا التی لا زالت فی مسرح الأحداث والعمل، لا سیما القضایا الحساسة والأساسیة، کذلک فنحن نتحدث عن منهج تمت تجربته وامتحانه ووصل إلى نتائج فذّة ورائعة. وهذه النقطة هی غایة فی الأهمیة عندما یرید الإنسان تقبل أی منهج کان، فالتطبیق العملی لأی منهج هو دلیل أساسی على صحة ذلک المنهج أو سقمه، خاصة عندما تکون النتیجة، النجاح الباهر. فالیوم وبعد أکثر من نصف قرن على انطلاقة هذا الإمام فی ثورته وبعد ما یقرب من ربع قرن على نجاح تلک الثورة یمکننا الجزم من خلال الاستقراء والتفحص أن فکر ونهج وخطر الإمام کان صحیحاً وصائباً بل ورائداً؛ فمن جهة استطاع هذا الفکر أن یحقق تحولات جذریة لیس فقط فی إیران بل فی العالم الإسلامی والعالم کله على مستویات عدة فی السیاسة والعلاقات الدولیة وتحرر الشعوب، وأوجد معادلات جدیدة ورؤى وقواعد مختلفة عن السائد، ویمکن القول أنه استطاع أن یوجد مناخاً طازجاً لم یکن له وجود فی السابق. هذا المناخ باتت تأثیراته ملموسة أکثر من أی یوم مضى، بل وصار له تأثیر على حاضر ومستقبل شعوب هذه المنطقة بأسرها، ومن جهة أخرى تمکن من أن یصنع نماذج بشریة راقیة على مستوى النوع والکم معاً قلما شوهد ذلک فی أی عصر من العصور الغابرة.
هذه التحولات الکبیرة فی المجتمع والأفراد، والتی تتبلور وتزداد عاماً بعد عام هی لیست إلا کاشفاً عن مدى تأثیر فکر الإمام الخمینی (ره) فی الثقافة الإسلامیة، وموقع هذا الفکر فی هذه الثقافة لدى المجتمعات الإسلامیة فی عالمنا المعاش. هذا کله رغم الموانع الکثیرة التی وضعت فی الطریق لمنع تأثر الثقافة الإسلامیة فی هذا العصر بفکر هذا الرجل العظیم. وقصة هذه الموانع مریرة ومؤلمة، حیث یمکننا القول باختصار ومن أجل اظهار قیمة هذا الفکر، أنه وبرغم أن الاستکبار العالمی والصهیونیة العالمیة ومعهما الکثیر من الأنظمة الحاکمة فی المنطقة، ومعهم مع الأسف الکثیر من المسلمین وحتى الشیعة منهم، وفیهم العدید من العلماء والکتاب والمثقفین، برغم أن هؤلاء جمیعهم کل من موقعه قد عملوا من قبل الثورة وأثناءها وبعدها وإلى الیوم هم یعملون فی مواجهة فکر الإمام، تساندهم فی ذلک الکثیر من وسائل الاعلام وأبواق السلاطین، لکنهم لم یتمکنوا من طمس هذا الجوهر الثمین والنادر، بل نرى فکر الإمام السیاسی منه والاجتماعی، والجهادی، وفی کافة المستویات یصب أکثر فأکثر ویوماً بعد یوم فی بحر الثقافة الإسلامیة الهادر، لیزداد البحر عمقاً وسعة ویصبح أکثر صفاءً بفضل هذا الفکر الإلهی النیر.
الحاجة المستمرّة لتطهیر الثقافة
غیر أننا ورغم الموقع المتقدم الذی احتله فکر الإمام فی الثقافة الإسلامیة، بحیث صارت آثار التغییر واضحة جداً، غیر أننا نعتقد أن الثقافة الإسلامیة السائدة فی الوسط الإسلامی الشعبی والرسمی والحزبی لدى الشیعة والسنّة، لا تزال تحتاج إلى الکثیر الکثیر من «التطهر» بالماء الزلال لفکر الإمام وهذا التطهر لیس انتقاصاً ولکنه رفعة وکمالاً، ولم یعد خافیاً على أحد من المسلمین ولا سیما أهل النظر والرأی أن المسلمین الیوم باتوا یحتاجون إلى ما یمکن تسمیته بالطهر الثقافی عبر التخلی عن مئات أو فقل آلاف المفاهیم الفاسدة أقلاً على مستوى الفهم وطریقة النظر، وعن تداعیاتها من العادات التی لا أساس لها فی الإسلام فضلاً عن العصبیات والأخلاقیات المناقضة بدورها لرحابة الإسلام وعطوفته، وهی بحاجة بعد عملیة التطهر هذه إلى التحلی بجواهر الثقافة الأصیلة، التی یمکنها فقط أن تجعل هذه الأمة خیر أمة أخرجت للناس، وهنا یأتی دور العمل وبذل الجهد المضاعف من قبل کل المخلصین لخط الإمام وفکره من أجل ضخ هذا الفکر أکثر فأکثر فی ثقافة الأمة کیما تضج الأمة بالحیاة وتتحول ثقافتنا إلى ثقافة منسجمة مع أهداف التغییر الکبرى التی تحملها أمتنا لشعوب العالم.
إن فکر الإمام الخمینی کان وسیبقى فی المدى المنظور على الأقل لیس فکراً یمکنه أن یصلح الثقافة السائدة فی الأمة ویرفع الأمة بذلک إلى ذراها، بل الفکر الذی لا تصلح ثقافة الأمة من دونه، إنه فکر رجل حباه اللَّه للأمة على رأس قرن من قرون الإسلام، فهل نملک أهلیة استقبال هذه المنحة وهذا الفکر لنضعه فی قلب ثقافتنا، فی موقع القلب والضمیر...
کلنا ثقة بالأمة.
-----------------------------
[1] الإمام الخمینی (ره) کتاب الکلمات القصار، ص234.
[2] الإمام الخمینی (ره) الکلمات القصار، ص252.