الوقت- بعد عقود من التبشير، والتغني بالحلم الفرنسي بقدرة لغة موليير على تغيير بوصلة المغاربة،أتت الحملات الأخيرة، التي أطلقها مجموعة من الشباب، لتثبت أن المجتمع المغربي، بكل أطيافه ونخبه، يرفض استدامة التبعية لباريس وسياساتها الاستعمارية القديمة والجديدة.
فاليوم يتجه المغرب نحو الانتقال من تعليم اللغة الفرنسية كلغة أساسية في المدارس نحو الإنكليزية التي تعد أكثر استخداماً ولا سيما في الحياة العملية لكونها الأكثر شيوعاً حول العالم، في ظل أزمة دبلوماسية خفيّة بين فرنسا والمغرب مستمرة منذ أكثر من عام.
ولطالما كانت اللغة الفرنسية في المغرب شائعة إلى حد فاق استخدامها من قبل المغاربة للغة العربية أو اللهجة المحلية في المخاطبات اليومية وحتى في البيوت، ما جعلها تسيطر إلى حد كبير على تعاملاتهم الرسمية وأسلوب حياتهم.
ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة، وانفتاح أسواق العمل على دول العالم، باتت اللغة الإنكليزية ضرورة لفتح آفاق جديدة لهم، لكن عدم تعليمها في معظم المدارس وضع عراقيل أمام فرص العمل المعروضة، ليصبح تعليم اللغة الإنكليزية ضرورة ملحة للأجيال الحالية والقادمة.
وكانت الجزائر قد اتخذت قراراً مشابهاً بإقرارها اعتماد اللغة الإنكليزية بدءاً من المرحلة الدراسية الابتدائية، منهية بذلك هيمنة دامت لأكثر من 200 عام.
وتشهد العلاقات المغربية الفرنسية توتراً منذ أيلول/سبتمبر 2021، بعد رفض فرنسا منح تأشيرات لمغاربة من بينهم رجال أعمال وفنانون وطلبة.
ظهر التوتر علناً بعد قرار فرنسا بالتشديد على شروط منح التأشيرات لمواطني دول المغرب العربي بما في ذلك ايضا تونس والجزائر، وبرز بعدم حصول أي زيارات دبلوماسية بين المغرب وفرنسا منذ تلك الفترة.
وقالت الحكومة الفرنسية حينها إن قرارها ناجم عن أن الدول الثلاث “ترفض إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لاستعادة مهاجرين من مواطنيها”، في ما اعتبره وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة آنذاك “غير مبرر لمجموعة من الأسباب”.
وتستمر في التمدد دائرة المطالبين بالتخلي عن الفرنسية واعتماد اللغة الإنجليزية في المدرسة المغربية، لتصل إلى قطاع التعليم الخصوصي، الذي يعد من بين القطاعات التي تمثل “حاضنة” للغة الفرنسية وجسرا ينساب عبره التمدد اللغوي الفرنسي إلى المغرب.
ومن وسط الهيئات المهنية للتعليم الخصوصي، انبثق صوت ناصر بن الفاسي، النائب الأول لرئيس رابطة التعليم الخاص بالصخيرات ومؤسس مدرسة خصوصية، حيث طالب، في رسالة وجهها إلى وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، بتبني اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية أولى في المملكة.
الموقف الذي عبر عنه الفاسي جاء من منطلق ضرورة تعامل المغرب بالمثل مع فرنسا، بعد سلسلة المواقف المضادة لمصالح البلاد التي تبنّتها، وأدت إلى دخول العلاقات بين البلدين منعطفا غير مسبوق من التوتر، من تجلياته خفض عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة إلى النصف، وتوالي زيارات المسؤولين الفرنسيين إلى الجزائر لتعزيز العلاقات بين البلدين على حساب المغرب، واستقبال انفصاليين من جبهة البوليساريو في البرلمان الفرنسي.
وقال الفاسي، في رسالته الموجهة إلى وزير التربية الوطنية، إن “وضوح موقف الدول بشأن مغربية الصحراء أصبح بمثابة عقيدة المرحلة، وهو ما يبدو أن الدولة الفرنسية لا تريد أن تنخرط فيه، مفضلة تبني موقف ضبابي”، محيلا على الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب.
وفضلا عن المواقف الفرنسية إزاء المغرب، استند الفاسي في دعوته إلى اعتماد الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى إلى كون الفرنسية تعرف تراجعا على مستوى تطوير الكفاءات والبحث العلمي، وخاصة مع الثورة العلمية والصناعية التي تعرفها المملكة، وهو ما يقتضي، وفقه، الانفتاح على المنهج الأنجلوسكسوني.
وأعلن مسبقاً وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالمغرب شكيب بن موسى وعي الدولة بأهمية التدريس باللغة الإنجليزية، إلا أن الحكومة لم تقدم بعد على اتخاذ خطوات تنفيذية لتطبيق الانتقال من الفرنسية إلى الإنجليزية. وتتنامى في المغرب دعوات إلى التخلي عن اللغة الفرنسية في التعليم وفي عدد من القطاعات الأخرى، والاعتماد على "لغة شكسبير" بشكل أكبر.
وشهدت الآونة الأخيرة حملات عدة من طرف نشطاء مغاربة تدعو إلى التخلي عن اللغة الفرنسية واعتماد اللغة العربية في المعاملات والإدارات، وأيضاً إقرار اللغة الإنجليزية في التدريس والمؤسسات التعليمية. ونادت عرائض إلكترونية برفض استخدام اللغة الفرنسية في المؤسسات الرسمية، وإرساء ما سمته "العدالة اللغوية" في المغرب، منتقدة الاعتماد الكبير على "لغة موليير"، ومعتبرة ذلك نوعاً من الضرب في الهوية المغربية، وترسيخاً لنهج التبعية للبلد الذي سبق أن كان مستعمراً للمغرب. وفي السياق برزت حملة أطلقها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي تدعو المغاربة إلى تغيير لغة إعدادات هواتفهم المحمولة من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، تحت وسم "مليون هاتف بالإنجليزية".
ويسير المغرب نحو الانفتاح أكثر على اللغة الإنجليزية، وهو ما أكده وزير التربية الوطنية بمناسبة انطلاق السنة الدراسية الجديدة، حيث أعلن أن وزارته تولي أهمية كبيرة لتدريس اللغة الإنجليزية، إذ تدرّس في 2200 مؤسسة تعليمية من طرف ما يناهز تسعة آلاف أساتذة وأستاذ.
وتوجه الحكومة نحو اعتماد اللغة الإنجليزية بشكل أكبر تجلى أيضا في إشارة بن موسى إلى احتمال تدريس بعض المواد العلمية باللغة الإنجليزية مستقبلا، إضافة إلى توسيع تمكين التلاميذ منها في مستوى الثانوي الإعدادي.
واعتبر النائب الأول لرئيس رابطة التعليم الخاص بالصخيرات أن مطلب تبني الإنجليزية لغة أجنبية أولى “يرتبط بشكل وثيق بسيادة الدولة أكثر من أي شيء آخر”، مبرزا أن “الضرورة تقتضي اعتماد هذه اللغة بشكل عاجل وفقا للمناهج والأرضيات المعتمدة من الدول العربية التي سبقتنا بهذا الشأن، والتي تعتلي مراتب رفيعة على مستوى المنظومة التعليمية”.
المسألة اللغوية باتت جزءا من عنصر المقاومة والبحث عن السيادة الوطنية. فلا سيادة وطنية دون لغة وطنية. وإذا كانت الأوضاع الحالية مناسبة لجعل القرار السياسي في المغرب ينصاع لرغبة الشعب، فإن الأفيد هو الاقتناع بأن لغة موليير لم تعد لغة علم ومعرفة، وأن الرهان عليها رهان على اجترار التخلف.