الوقت - قال المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا إن الرئيس الجزائري عرض القيام بـ”عمل على الذاكرة” المشتركة طوال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر خلال لقاء معه في العاصمة الجزائرية بمناسبة ستينية الاستقلال.
وذكر ستورا لوكالة الأنباء الفرنسية أن تبون شرح له “الأهمية الكبرى للعمل على ذاكرة كامل مرحلة الاستعمار” وليس الاقتصار على حرب الجزائر وحدها (1954-1962)، وهو ما يؤيده المؤرخ.
وأبرز ستورا أن “حرب احتلال الجزائر كانت طويلة جدا ودموية جدا، واستمرت عمليا نصف قرن” من 1830 إلى 1871، وترافقت حسبه مع “تجريد من الأملاك والهوية” إذ “حين كان الناس يخسرون أرضهم، كانوا يخسرون اسمهم”، وتمت إقامة “مستوطنة” بوصول عدد الأوروبيين في نهاية المطاف إلى مليون مقابل تعداد سكاني قدره تسعة ملايين نسمة.
واعتبر المختص في التاريخ الجزائري أن هذه كلها صدمات لا تزال تبعاتها ماثلة إلى اليوم في نظرة كل من الشعبين إلى الآخر، وهي برأيه “تفسر صعوبة العلاقات الفرنسية الجزائرية”. وأضاف إن “الناس لا يعرفون ما الذي جرى، إنها مشكلة الانتقال إلى الأجيال الشابة والعمل المشترك”.
ولفت ستورا إلى أن التركيز بشكل أساسي في الجزائر على حرب التحرير الوطني، أدى إلى “استقطاب شديد سواء في فرنسا أو في الجزائر حول حقبة الحرب حصرا، بل حتى نهاية الحرب، بين 1960 و1962”.
وترافق هذا التركيز مع “مواجهات بين مجموعات ذاكرة” مختلفة حول المجازر وفرار المستوطنين الأوروبيين الذين يطلق عليهم اسم “الأقدام السوداء”، والصراعات على السلطة داخل الحركة القومية الجزائرية.
وتابع: “انصب اهتمامنا جميعا على تاريخ 1962” من توقيع اتفاقات إفيان في آذار/مارس إلى استقلال الجزائر في 5 تموز/يوليو، لكنه اعتبر أنه “لا يمكن أن نبقى أسرى تاريخ واحد هو 1962، علينا توسيع حقل أبحاثنا”.
ويأتي لقاء ستورا مع تبون في ظل عودة العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى طبيعتها بعد فترة توتر طويلة تسببت بها تصريحات الرئيس ماكرون في أيلول/سبتمبر الماضي والتي انتقد فيها ما وصفه بالنظام السياسي العسكري في الجزائر وأشار إلى أن النظام الجزائري يعيش على ريع الذاكرة مع فرنسا.
ونفى المؤرخ أن يكون لقاؤه مع تبون قد تناول تصريحات ماكرون السابقة حول الجزائر، وقال إن ثمة إرادة لإحياء العلاقات. وكان ستورا قد سلم للرئيس الجزائري رسالة من نظيره الفرنسي تؤكد على الرغبة في تعزيز العلاقات وتعلن زيارة قريبة لماكرون إلى الجزائر.
وسبق لستورا أن أثار ردود فعل واسعة بعد طرحه في كانون الثاني/جانفي 2021 تقريره حول مصالحة الذاكرة للرئيس ماكرون، لكن هذه الوثيقة قوبلت بالتجاهل من الجانب الرسمي الجزائري الذي اعتبره تقريرا فرنسيا فرنسيا كما تعرض للانتقاد لكونه ساوى بين الضحية والجلاد من وجهة النظر الجزائرية.
وفي نفس سياق العلاقات بين البلدين، أكد سفير الجزائر بفرنسا، محمد عنتر داود، أن هناك إرادة سياسية عليا ببعث ديناميكية جديدة في العلاقات بين البلدين.
وذكر السفير خلال حفل أقيم يوم الجمعة بباريس، بمناسبة الاحتفال بستينية الاستقلال، أن الرئيس عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تحذوهما إرادة سياسية والتزام بالعمل على تعزيز العلاقات الجزائرية-الفرنسية و”بعث ديناميكية جديدة وفق رؤية متجددة، تحترم السيادات وتوازن المصالح احتراما كاملا”.
ولقيت تصريحات المؤرخ الفرنسي صدى واسعا في وسائل الإعلام، وكأنّها المرة الأولى التي تلتقط فيها فرنسا أهم محدّدات الرؤية الجزائرية لمعالجة ملف الذاكرة.
ولعلّ الفرصة كانت مواتية جدّا لستورا، ليتأكد من مدى بُعد تقريره الذي أعدّه للرئيس ماكرون، العام الماضي عن جوهر المسألة، وكيف ظلّ «لا حدث» بالنسبة للجزائريين.
لفهم تفاصيل وأبعاد الموقف الجزائري حيال الذاكرة، يكفي العودة إلى رسالة الرئيس عبد المجيد تبون، بمناسبة ذكرى 8 ماي 1945، والتي وجهها للأمة سنة 2020.
في هذه الرسالة، نجد المرجعية الحقيقية للملف، ونتعرف على أبعاد راسخة تعرضت للإهمال والتجاوز، طوال السنوات الماضية، لصالح الأطروحة التي تحصر الاستعمار الفرنسي في الفترة ما بين 1954 و1962، والتي تسمى في الإيديولوجيا الفرنسية بهتانا «حرب الجزائر» في محاولات لا تنتهي للمساواة بين الضحية والجلاد.
وجاء في رسالة الرئيس :»إنّ القمع الدموي الوحشي للاحتلال الاستعماري الغاشم، سيظل وصمة عار في جبين قوى الاستعمار التي اقترفت في حق شعبنا طوال 132 سنة، جرائم لا تسقط بالتقادم على الرغم من المحاولات المتكررة لتبييضها، لأنّ عدد ضحاياها تجاوز الخمسة ملايين ونصف المليون ضحية من كل الأعمار، أيّ ما يمثل أكثر من نصف سكان الجزائر».
قبل أن تكشف رئاسة الجمهورية، الخريف الماضي، على خلفية تصريحات الرئيس ماكرون المسيئة، أنّ عدد شهداء الجزائر في الكفاح ضدّ الاستعمار يقدر بـ 5.630.000 شهيد.
إنّ العمل على ملف الذاكرة المشتركة وفق هذه الأبعاد، سيكشف للفرنسيين، مدى قبح ووحشية الاستعمار، وكيف كانت الأمة الجزائرية تقاوم وتحارب منذ أول ضربة مدفع بسيدي فرج.
ولم تستعد العلاقات الجزائرية الفرنسية حيويتها إلا مع نهاية العام المنصرم، بعد زيارتين حل بالجزائر خلالهما وزير أوروبا والشؤون الخارجية السابق، جون إيف لودريان، الذي حرص على لعب دور رجل المطافئ لخفض التوتر بين البلدين.
ووفق مصادر دبلوماسية من السفارة الفرنسية، فإن زيارة لوزيرة الخارجية الفرنسية الجديدة، كاثرين كولونا، كانت مرجّحة في احتفاليات استقلال الجزائر، غير أن التمثيل يبدو أنه اختزل في المؤرخ بنجامان ستورا، على اعتبار أن المسألة تتعلق بمناسبة ذات علاقة بالذاكرة، التي سبق للضيف أن اشتغل عليها بطلب من الرئيس ماكرون.
ويشتكي الرئيس الفرنسي، وفق مقربين منه، من عدم تعاون الجانب الجزائري في مشروعه لخفض التوتر على صعيد الذاكرة، غير أن الطرف الجزائري يؤكد بأنه لم يلمس ما يشجعه على التقدم في ملف الذاكرة من الجانب الآخر، وفي هذا الصدد يرى متابعون أن الرئيس الفرنسي لا يزال رهينة الأوساط المعادية للمصالح الجزائرية، ولاسيما أولئك المتشبثين بأوهام “الجزائر فرنسية”، الذين عادوا بقوة إلى الواجهة في ظل سياسات ماكرون التي تعتبر أقرب إلى بعض مواقف اليمين المتطرف فيما يخص هذا الملف الحساس.
ويبقى أي تعاون جزائري في ملف الذاكرة مرهونا برسائل جادة من قبل الجانب الفرنسي، وهي الرسائل التي تبقى غائبة إلى غاية اليوم، لأن الخطوات التي أقدم عليها ماكرون لحد الساعة (الاعتذار لعائلتي موريس أودان وعلي بومنجل)، تبقى رمزية وبعيدة كل البعد عن تطلعات الجزائريين.