الوقت- يعمل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ تسلّمه مقاليد الحكم، على محو كل آثار السياسات والممارسات التي التصقت بالنظام السابق. وجاء الدور هذه المرة على وضع استراتيجية الوقاية من الفساد ومكافحته، في محاولة لمنع عودة تفشّي الظاهرة التي أفلست البلاد والعباد منذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم عام 1999.
ومع استمرار محاكمات الفساد التي كان أبطالها شخصيات سامية في الدولة الجزائرية، سياسية وعسكرية، أعلنت الجزائر عن استحداث هيئة جديدة للتحري في مظاهر الثراء لدى الموظفين العموميين، وقد جاء هذا القرار ضمن أشغال مجلس الوزراء الأخير الذي ترأسه الرئيس عبد المجيد تبون، مشددا على ضرورة العمل على محاربة أشكال الفساد، عملا بمبدأ "من أين لك هذا".
ويقود المشروع للحديث عن السلطة الوطنية العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، حيث تسعى الجزائر لمراجعة اللوائح القانونية التي تحارب الفساد خاصة تلك التي تتعلق بتحويل الأملاك العمومية والتجارية، وشروط الإعلان عن الصفقات والمناقصات العمومية.
وينظر رجال السياسية بكثير من الاهتمام إلى مثل هذه القرارات التي أصبحت تشكل ملامح السياسية الجديدة للرئيس عبد المجيد تبون الذي يبدو أنه يريد الدفع نحو بناء اقتصاد جديد للبلاد خالٍ من الفساد.
وقد أرهقت الجرائم المالية الخزينة الجزائرية لعقود طويلة، وتسبب في خسارة الجزائر لأكثر من 200 مليار دولار بحسب تقديرات الخبراء، بما بات يعرف قضائيا بـ"فضيحة "الأموال المنهوبة" والتي تسعى الجزائر منذ عامين لاسترجاعها بكل الطرق.
وأكد السياسي وعضو المجلس الوطني لحزب التجمع الوطني الديموقراطي "الأرندي"، كريم بن عيسى، أن مثل هذه القرارات من شأنها محاربة الفساد والبيروقراطية التي شوهت الحياة السياسية ودمرت الاقتصاد الوطني.
وقال بن عيسى إن أهم شيء يجب أن تضمنه الهيئة هو تطبيق القانون بشكل جاد بعيدا عن الحسابات الشخصية.
وأشار عضو مكتب "الأرندي" إلى أن الرقابة بإمكانها تنظيم سوق المال والأعمال في الجزائر وحماية المستثمرين الحقيقيين من التعرض للابتزاز والمساومة.
ويعتبر القرار الأول من نوعه في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال، فرغم وجود العديد من القوانين التي تحارب الرشوة والفساد الإداري ومظاهر الثراء إلا أن الجزائر لم تعرف ميلاد هيئة بهذا الوزن.
العديد من الهيئات لم تحقق شيئاً!
ويتسأل المراقبون الجزائريون عن الهيكل التنظيمي لهذه الهيئة، وطبيعة الأعضاء، وهل ستتكون من قضاة أو إداريين، حيث يخشى الخبراء من أن يطول الأمر، ويتعثر مشروع إنشاء الهيئة مع فعل الزمن.
وفي انتظار صدور النصوص التنظيمية فإن خبراء القانون يتوقعون أن تتشكل هذه الهيئة من عدد من المؤسسات والشخصيات الوطنية، بالإضافة إلى الضبطية القضائية والمجتمع المدني وأصحاب الخبرة القانونية.
وسيكون للأعضاء صلاحيات تحريك الدعوة العمومية ضد المسؤولين الذين تظهر عليهم مظاهر الثراء الفاحش بشكل قياسي مثير للانتباه.
ومنذ استقلال البلاد عام 1962 إلى يومنا هذا، عرفت الجزائر إنشاء عدة هيئات لمحاربة الفساد، كما تم سن قوانين في هذا الإطار إلا أن مسألة تحريك الدعوة العمومية ظلت مسألة بعيدة المنال خاصة خلال الثلاثة عقود الماضية.
ويرى الخبير القانون الدستوري الجزائري عامر رخيلة أن الجزائر فشلت في محاربة الفساد المالي والإداري، رغم أنها سنت عام 2006 قانون 06/01 الشهير والمتعلق بمكافحة الفساد.
وقد تفاقم الفساد المالي في الجزائر رغم تشكيل الهيئة الأخلاقية وتعزيز القانون بالعديد من المواد القانونية الجزائية المشددة، على غرار قانون 119 من قانون العقوبات الذي صنف الجريمة الاقتصادية كجناية تصل عقوبتها للإعدام.
وقال رخيلة: "العبرة بالتنفيذ وليس بالقوانين، لأن المسؤول السياسي والإداري ساهما معا في الفساد المالي، وقد ظلت مسألة محاربة الفساد هي الاستثناء".
مراجعة عميقة للقوانين بعيداً عن قانون 2006
يجب البدء قبل سنّ القوانين، بتطهير الشركات والمؤسسات والإدارات العمومية من البيروقراطية، وتأهيل الإطار البشري المشرف على تسييرها على أساس الكفاءة والنزاهة بعيداً من الجهوية والولاءات الحزبية. ومن ثم يجب تدعيمه بترسانة قوية من القوانين الواضحة والمرنة التي تسمح للمسيّر باتخاذ القرار وفي الوقت ذاته تحميه من الخطأ، عكس الحاصل حالياً، إذ إنّ غالبية المراسيم الإدارية يكتنفها الغموض والتأويلات. هذا فضلاً عن حماية الإطار المسير من الضغوط الخارجة عن الهرم الإداري، مادياً ومعنوياً. أما بالنسبة إلى المراجعة المقبلة لقانون مكافحة الفساد، يجب أن تكون عميقة بعيداً من قانون 2006 المليء بالثغرات، والذي يحتمل عدد كبير من مواده تفسيرات مختلفة. كما أن هناك ترسانة قوية من القوانين الدولية يمكن للجزائر إدماجها بسهولة في منظومتها التشريعية، حتى تكفل أكبر قدر من الشفافية في التسيير، وتضمن ردعاً قوياً في آن واحد، مع إمكانية الرجوع إلى ما قبل 2006، حين كانت جرائم الفساد تتدرّج من جنحة بسيطة إلى غاية تصنيفها كجنايات تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد.
اقتراح سياسة شاملة للوقاية من الفساد
تنصّ المادة 20 من القانون الجزائري المتعلّق بالوقاية من الفساد ومكافحته، على أن مهمة هيئة الوقاية من الفساد ومكافحته تتمثّل في "اقتراح سياسة شاملة للوقاية من هذه الآفة، تكرّس مبادئ دولة القانون وتعكس النزاهة والشفافية والمساءلة في إدارة الشؤون العامة والممتلكات العمومية"، وقد تم تخصيص هذه المهمة من خلال المادة 203 من المراجعة الدستورية لسنة 2016، أما إعداد الاستراتيجية فقد حصل بعد فترة وجيزة من تعيين الرئيس الجديد للهيئة، في مايو (أيار) 2019.
وتتولّى الهيئة مهمة "اقتراح سياسة شاملة للوقاية من الفساد تكرّس مبادئ دولة الحق والقانون، وتعكس النزاهة والشفافية والمسؤولية في تسيير الممتلكات والأموال العمومية والمساهمة في تطبيقها". وترفع الهيئة إلى رئيس الجمهورية تقريراً سنوياً عن تقييم نشاطاتها المتعلّقة بالوقاية من الفساد ومكافحته والنقائص التي سجلتها في هذا المجال والتوصيات المقترحة عند الاقتضاء.
حتى الآن لم يتمكن الجزائر من القضاء على ظاهرة الفساد من خلال التشريعات السابقة والقوانين التي تبدو صارمة ولكن يبدو أن الرئيس الجزائري مصمم على جعل الفترة القادمة هي فترة النمو الاقتصادي للجزائر والتي من مستلزماتها تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد في مفاصل الدولة.