الوقت - قبل إيقاع نفسها في مستنقع إدلب، من خلال اتفاقية أستانا ومجموعة الظروف الإقليمية والدولية،كان لدى تركيا العديد من الخيارات للمناورة في القضية السورية، ولكن خياراتها الآن أصبحت ضيقةً جدًا في التعامل مع هذا الملف.
قبل تحركات تركيا في سوريا واستفزاز جيشها والقوات الروسية، بدت المفاوضات مع موسكو خيارًا جيدًا لأنقرة في القضية السورية.
ولكن انتهاء ثلاث جولات من المفاوضات دون حل وسط بين الجانبين، وانتقال اللعبة الميدانية التركية من طاولة المفاوضات إلى مرحلة الاستفزاز العلني؛ كما رأينا في استهداف الجيش التركي الطائرات السورية والروسية، فإن التحدي السوري لأنقرة دخل مرحلةً جديدةً.
موقف تركيا الرئيسي من القضية السورية الذي أثير في اجتماع مجلس الأمن أمس، ركز على فرض مسؤولية قتل القوات التركية على دمشق، وکذلك عدم استفزاز موسكو، لتبرر بهذه الطريقة أن أنقرة يجب أن تظهر رد فعل مماثل ضد قوات الحكومة السورية ومواقعها، مثلما حدث في ريفي أدلب وحلب في الأسابيع الأخيرة.
أن تسعى تركيا لسحب لعبتها الإعلامية من مرمی روسيا، وتقصر ذرائعها علی الانتقام من جارها الجنوبي فقط؛ يعني من ناحية هشاشة اتفاق الناتو الذي كانت تركيا تعتمد عليه في مناوراتها الأخيرة، ومن ناحية أخرى يعني أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يثق حتى الآن بالوعود الأمريكية بدعم تركيا في شمال غرب سوريا، وأولها تزويدها بنظام باتريوت.
أنقرة حالياً، وكما فعلت في عام 2015، عندما ازدادت التوترات مع موسكو، من خلال الإعلان المباشر عن أنها فتحت الحدود أمام اللاجئين السوريين لدخول دول الاتحاد الأوروبي، خيارها الأول هو ابتزاز الأوروبيين في قضية اللاجئين السوريين. كما تربط تركيا هذا الأمر بقضايا الغاز في الشرق الأوسط وموقف أوروبا الصارم تجاه دور تركيا في ليبيا.
عندما أمر أردوغان الجيش السوري قبل 20 يومًا بالانسحاب من منطقة "إدلب" بحلول نهاية فبراير، كان من الواضح أنه كان يخطط لشراء الوقت لإعداد الدعم اللوجستي لعملية عسكرية ضخمة في إدلب.
أنقرة تعتبر نفسها وحيدةً في مواجهة سوريا وروسيا في هذه الظروف، وتفضل اتباع سياسة الهروب إلی الأمام، والشروع في مغامرة مدمرة بين الجيش السوري وتركيا.
إعتقد أردوغان أن سياسة "التفاوض بالنار" قد تضطر سوريا وروسيا إلى قبول شروط تركيا، ولكن بعد مقتل القوات التركية في حريق إدلب، اختلّت هذه التقييمات للرئيس التركي.
وفي الوقت نفسه، يعتقد خصوم أردوغان أن سياساته في سوريا وليبيا قد وضعت تركيا في مأزق.
في أعقاب مقتل الجنود الأتراك في إدلب، تحاول وسائل الإعلام المؤيدة لأردوغان إظهار الأوضاع عاديةً ورفع الروح المعنوية؛ ولكن الصور التي نشرتها وسائل التواصل الاجتماعي عن القتلى والجرحى وأقاربهم، تتعارض تمامًا مع مزاعم وسائل الإعلام.
يدرك أردوغان الآن جيدًا أن الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي تركوه وحيداً في مستنقع أدلب، وأداروا له الظهر تمامًا.
لقد أصر الرئيس التركي على نشر قواته سعياً لتحقيق بعض أهدافه، لا سيما على جبهة "سراقب"، لكن النتيجة كانت كارثةً وطنيةً غير مسبوقة.
بعد ذلك، عندما أدرك أردوغان كيف ضحى ببلاده وقواته من أجل سياساته، بدأ الجولة الجديدة من جهوده للتعويض عن الأضرار من خلال اللجوء إلى حلف الناتو؛ ولكن بعد اجتماعه بالأمس، لم يتخذ الحلف موقفًا واضحًا من دعم تركيا في ملف سوريا.
لذا فإن الورقة الوحيدة المتبقية لصالح رجب طيب أردوغان، هي إقناع أوروبا بالانضمام إلى تركيا ضد روسيا؛ ولتحقيق هذا الهدف، قام بابتزاز الاتحاد الأوروبي من خلال فتح حدود تركيا مع أوروبا للاجئين والمهاجرين من مختلف البلدان.
وإذا لم يقتنع الغرب بدعم أردوغان، فسيتعين عليه قتل المزيد في سوريا، وفي الحقيقة إن أولوية أنقرة في هذه الظروف هي التفاوض بالنار.
بيان "فخر الدين آلطون" رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، حول رد فعل أنقرة على مقتل قواتها في الاشتباكات الأخيرة مع القوات السورية، يوحي بأن تركيا لا تنوي سحب قواتها من إدلب.
لذلك، تعتمد تركيا لتنفيذ بنود "اتفاقية سوتشي" على أطراف هذه الاتفاقية، وتحديداً إيران وروسيا، وبالتالي تتجنب أي رد فعل سلبي تجاه الدور الميداني لروسيا وإيران إلی جانب القوات السورية.
كل هذه الأدلة تقودنا إلى استنتاج أن اللعبة التركية في الساحة السورية سوف تستمر كما كانت في الأسابيع السابقة؛ وبالطبع، ستكون روسيا هذه المرة أكثر حدةً في التعامل مع المناورات التركية، ومن الأمثلة البارزة علی ذلك تدمير الطائرات بدون طيار التركية التي كانت تحاول دخول المجال الجوي السوري في إدلب.
وفي هذا الصدد، أعلنت موسكو موقفها من خلال بيان صادر عن وزارة الدفاع، أكدت فيه أن تركيا انتهكت جميع الاتفاقات بشأن سوريا، من خلال إرسال طائراتها بلا طيار إلى منطقة إدلب لدعم الجماعات المتطرفة ضد الجيش السوري. ومنذ ذلك الحين، دعم سلاح الجو الروسي جهود الجيش السوري لاستعادة السيطرة على هذه المنطقة والمناطق المحيطة بها.
بالنظر إلى أن تركيا فتحت حدودها مع الاتحاد الأوروبي أمام اللاجئين السوريين، يمكن ملاحظة أن موقفها الحالي حيال سوريا، هو وضع أوروبا تحت الضغط، ومن ناحية أخرى، الحد من التوترات التي ظهرت ضد تركيا من خلال قضية هؤلاء النازحين؛ لأن هذه التوترات بلغت ذروتها مع تزايد الخسائر العسكرية التركية في شمال سوريا.
ظروف تركيا هذه في سوريا تتقاطع مع زيادة الاستثمار السياسي من قبل الأطراف المعارضة لتركيا، التي تضررت في الحرب السورية، وهذا يحد أيضاً من خيارات أردوغان فيما يتصل بالملف السوري.