الوقت- كرّست الحرب العالميّة الثانية نظاماً جديداً. واشنطن التي جعلت من الدولار عملة عالمية ممسكة بالنظام الاقتصاد المالي، نجحت في توجيه ضربة قاسية للمعسكر الشرقي تمثّلت بانهيار الاتحاد السوفياتي، لتحكم واشنطن قبضتها على السيادة العالميّة.
ومع إحكام واشنطن قبضتها على سلاح الاقتصاد، لم يعد هناك حاجة لتحريك حاملات الطائرات لإسقاط الأنظمة، بل تكتفي بالتهديد بإغلاق النظام العالمي أمام أي دولة لا تلتزم "بالديموقراطيّة الأمريكية".
لا شكّ أن إمساك واشنطن بالنظام المالي العالمي يعدّ اليوم، إلى جانب استحواذها على وسائل التواصل الاجتماعية، يشكل أحد أبرز اوراق القوّة بيد واشنطن. فقد عمدت واشنطن إلى استخدام أوراق القوّة هذه في مواجهة كافّة أعدائها ومنافسيها بدءاً من الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية، مروراً بروسيا ووصولاً إلى الصين.
نجحت واشنطن في زرع الرهب والخوف في الكثير من دول العالم، فعشرات الدول تعارض واشنطن بشكل تام، لكنها لا تجرؤ على الإفصاح عن ذلك خوفاً من غضب "القطب الأمريكي". الرياح الإيرانيّة لم تجرِ كما تشتهي السفن الأمريكية حيث برزت قوّة صاعدة حملت إسم الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة التي رفعت شعارات تختلف كثيراً عما تريده واشنطن. أدركت واشنطن باكراً حجم الضربة التي تلقّتها من الثورة الاسلامية. بدأت بالعقوبات مع الأيام الأولى للثورة بعد فشلها في إسقاطها بالسلاح عبر المستشارين العسكريين الأمريكيين وفي مقدّمتهم الجنرال هايزر. لم تثني العقوبات الاقتصادية في الأيام الأولى للثورة إيران عن مواقفها، لذلك عمدت واشنطن إلى استخدام حربة صدام حسين وأموال الدول الخليجية لإضعاف هذا النظام، لكن النتائج كانت عكسية تماماً.
واصلت واشنطن العقوبات والهجمة الإعلاميّة على إيران، لكنّ إيران لم تتراجع، بل عزّزت من حضورها في منطقة غرب اسيا.
تربّعت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة على رأس الدول التي تعرّضت للعقوابات الأمريكية، وفي حين إنكسرت بعض الدول أمام هذه العقوبات كالعراق في أيام صدام وغيرها، واصلت الجمهورية الإسلاميّة مسيرها غير آبهة بهذه العقوبات، وقد حقّقت تقدّما ملحوظاً خلال العقدين الماضيين جعلها في عداد الدول الأولى عالمياً في العديد من المجالات العلمية والعسكرية.
لا يختلف إثنان على أضرار هذه العقوبات على الجمهوريّة الإسلاميّة مرحلياً الأمر الذي يصبّ في صالح واشنطن. في المقابل، يرى العديد من الخبراء أن هذه العقوبات شكّلت فرصة ثمينة للجمهورية الإسلاميّة الإيرانية على المدى البعيد، فكيف ستكون تبعات هذه العقوبات على أمريكا استراتيجياً؟
أولاً: تحمل العقوبات الأمريكية على إيران تبعات استراتيجية تجاه واشنطن نفسها. لم تنجح العقوبات الأمريكية في إخضاع إيران طيلة العقود الماضية، بل على العكس تماماً، فبعد أن كانت العقوبات الأولى مرتبطة بالسفارة الفلسطينية في طهران، ومنع استيراد أبسط انواع الأسلحة من ضمنها الأسلاك الشائكة في الحرب ضدّ صدّام، باتت اليوم العقوبات الأمريكية مرتبطة بالنووي والصواريخ البالستية الدقيقة، فضلاً عن الحضور في العديد من دول غرب آسيا.
ثانياً: إن فشل هذه العقوبات تجاه إيران كسرت الهيبة الأمريكية والرعب الذي كان مزروعا في نفوس دول العالم، وبالتالي سيجرّؤ الكثير من الدول على الوقوف في وجه واشنطن، والقول "لا" لسيّد البيت الأبيض. بالفعل، نرى تصاعداً غير مسبوق في الاعتراض على القرارات الامريكية في هذا العالم، فهذا الأمر الذي كان "خيالاً" قبل وقوف الجمهورية الإسلاميّة بصلابة بات اليوم واقعاً يفرض على واشنطن التعامل به، ولإيران دور رئيسي في بروز هذه الظاهرة.
ثالثاً:لا شكّ أن نجاح الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية اليوم هو نجاح لكلّ الدول التي تسعى للاستقلال عن واشنطن أو أي هيمنة خارجيّة، وبالتالي فإنها تدفع من خلال هذه العقوبات فاتورة عن كل شعوب العالم. فكما كانت إيران السبّاقة في مواجهة الإرهاب الداعشي ونجحت بقيادة الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني وإخوانه بهزيمة تنظيم داعش وبقية التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق والدفاع عن الإنسانيّة جمعاء، هي أيضاً اليوم السبّاقة.
رابعاً: إن نجاح إيران في هذه التجربة يرتبط بشكل أساس بمبدأ "نحن قادرون" الذي ترسّخ في المجتمع الإيراني مع بدء الثورة. هذا النموذج الذي انتقل إلى حزب الله الذي كان لا يتعدّى عشرات الأشخاص في ثمانينات القرن الماضي، جعله اليوم أقوى تنظيم عسكري في العالم، حيث نجح في كسر الشوكة الإسرائيلية، وفعل ما عجزت عنه أكثر من 5 دول عربية. بات الحزب اليوم لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاوزه، والسبب في هذه القوةهي عقيدة "نحن قادرون" قبل أي أمر آخر.
في الختام، أثبتت إيران أن سلاح العقوبات الأمريكي غير مجدي، وواشنطن التي فلعت كل ما بوسعها فعله هي بحقّ نمر من ورق، فأقسى العقوبات لم تزيد إيران إلا عزماً وإصرارا ونجاحا. وبالتالي، إنّ أكبر خدمة قدّمتها الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية للعالم هي زرع مبدأ "نحن قادرون" على مواجهة واشنطن في نفوس العالم. هذا المبدأ الذي زرعه مفجّر الثورة الإسلاميّة الإمام الخميني (قدس) في نفوس المجتمع الإيراني وسرى على بعض دول الجوار، يتّجه إلى أن يتعدّى حدود الإقليم ليصل إلى كافّة دول العالم. هذا ما رسمه الإمام الخميني (قدس) هدفاً له منذ ما قبل انتصار الثورة حين لم يكن يمتلك إلى جانبه 40 شخص فقط، ولكن اليوم يمتلك مئات الملايين، ومن لديه أدنى شكّ فليراجع أهداف الثورة. باختصار، إن الصوت الذي على من إيران باكراً ضد أمريكا، واليوم نسمع صداه في بكين وأمريكا الجنوبيّة والعديد من دول العالم، سنكون على موعد معه في أفريقا والعديد من الدول الأوروبية أيضاً، فالقضيّة مسألة وقت لا أكثر، ولإيران الفضل الأكبر في ذلك، فنجاح التجربة هي التي تدفع الآخرين لتكرارها.