الوقت- "أعمال تطوّعية"، "أعمال جماهيرية"، "خدمة مدنية"، تعدّدت الأسماء والهدف واحد، كيّ الوعي الفلسطيني والقضاء على القضية عبر دمج الفلسطينيين في المجتمع (المجتمعات) الإسرائيلية، بعد غرس "روح الانتماء" للدولة الصهيونية في نفوس الجماهير العربيّة.
المسألة ليست حديثة العهد، بل تعود أولى المحاولات التي كانت على شكل قانون إلى سبعينيات القرن الماضي، لتتفعّل هذه المحاولات في تسعينيات القرن المنصرم، وتحديداً بعد اتفاقيات أوسلو حيث أخذت الخدمة المدنية اهتماماً واضحاً في النقاش السياسي الإسرائيلي، توالت المحاولات، وأوصت لجنة اور التي كان جميع أعضائها ضباط في الجيش بتفعيل برنامج الخدمة المدنية كونها ترى فيها نافذة لتغيّر الوعي السياسي والقومي للشباب العرب.
جاءت توصيات لجنة أور على إثر الانتفاضة الثانية التي أظهرت التمسك بالهوية الفلسطينية، وليس من قبيل الصدفة أن يناشد الرئيس الإسرائيلي رؤوفين رفلين الإسرائيليين العرب التطوع لأداء الخدمة المدنية، بل تأتي هذه المناشدة في صلب الحرب الناعمة التي هدفت سابقاً لتحويل الصراع من عربي-إسرائيلي إلى فلسطيني - إسرائيلي، وتهدف اليوم إلى تحويل هذا الصراع إلى نصف فلسطيني-إسرائيلي، أي تمزيق الجبهة الداخليّة الفلسطينية.
باءت جميع المحاولات السابقة بالفشل، اليوم، ومع ارتفاع منسوب الحديث عن صفقة القرن، وبعد إقرار قانون يهوديّة الدولة، تشتدّ محاولات التطويع الناعمة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي تحت شعارات خدّاعة، حيث إن التجنيد يكون من خلال وضع الشاب الفلسطيني بين 18 و 23 خدماته تحت تصرّف مؤسسات مدنية سواء المجالس البلديّة، جهاز الإطفاء، المستشفيات أم المدارس وحضانات الأطفال.
إذن المسألة أبعد من قضيّة ملء فراغ هنا أو هناك، بل تتعدّاها لاستهداف القضيّة الفلسطينية في الصميم، إذ إن الخدمة المدنية موازية للخدمة العسكرية، وهي خدمة مباشرة للاحتلال الذي قام على أنقاض الشعب الفلسطيني ونفذ أبشع المجازر بحق هذا الشعب.
هذا الواقع يفرض حاجة إلى حرب ناعمة مضادة، أي توعية المقدسيين ولاسيّما الشباب على تبعات هذا المشروع الخطير، وفي حين يدرك هؤلاء خطورة هذا الأمر سيعمدون بشكل طبيعي إلى ترك "الخدمة المدنيّة" مهما كانت الإغراءات المقدّمة بأن يحصل المشارك بعد إنهاء عامَي الخدمة على امتيازات المجنّد الإسرائيلي كالقروض والمنح التعليمية وتسهيلات لفرص العمل وغيرها، حيث تعمد السلطات الإسرائيلية على استغلال حجم البطالة والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي يعاني منها الفلسطينيون، والتي لم تكن كذلك، لولا التطبيع الذي جعل لقمة العيش لدى الفلسطينيين بأيدي أعدائهم.
لا نعتقد أن الكيان الإسرائيلية سينجح في أسرلة المقدسيين، لاسيّما في ظل سيطرة اليمين على المشهد السياسي، ومشاهد المقاومة الفرديّة لشبّان وشابات فلسطين خير دليل على ذلك، بدءاً من الردود التي حصلت بعد إحراق الرضيع الفلسطيني محمد أبو خضير، مروراً بانتفاضة السكاكين ووصولاً إلى مواجهات باب الأسباط، هناك من انصرف من هذه الخدمة بعد أن أدرك خطورتها، وبالتالي، وكي لا يقع الشبان الذين يتخرّجون للتو من المدارس أو الجامعات في هذا الفخ، لا بدّ من الإضاءة على خطورة هذا الأمر وتبعاته، أي على النخب الفلسطينية، ومن خلفها العربية، العمل على تفنيد كل الأساليب المستحدثة والخدّاعة التي تستخدمها مؤسسات العدو، وهنا لا بدّ من الثناء على الحراك الذي قام به شبان مقدسيون تحت شعار "ارفض! شعبك بيحميك".
لا يكفي الثناء على هؤلاء بل لا بدّ من مؤازرتهم بدءاً من دعم صفحاتهم على مواقع التواصل، وليس انتهاءً بالدعم الثقافي والمالي إن أمكن.
ما الذي دعا الكيان الإسرائيلي إلى تفعيل برنامج الخدمة المدنية تجاه عرب 48 والمقدسيين؟ يكمن أحد الأسباب الرئيسية في أزمة التجنيد العسكريّة وتوجّه الكثير من الإسرائيليين للابتعاد عن الوحدات القتالية في مؤشر واضع على ضعف العقيدة العسكرية التي كانت سبباً لتأسيس وديمومة الاحتلال.
وبالتالي أن يأتي الشباب الفلسطيني في مثل هذه الظروف لسدّ هذه الثغرة دون قصد، فهذا يعني معالجة المجنّد الفلسطيني، من حيث يدري أو لا يدري، لهذا الضعف الاستراتيجي الإسرائيلي.
سبب آخر تكشفه دراسة نشرتها جامعة حيفا في عام 2010 وحملت عنوان "الخدمة المدنية للعرب في إسرائيل"، حيث تشير الدراسة إلى أن 85% من العرب الذين التحقوا بالخدمة المدنية يقبلون بيهودية الدولة، وهذا يعكس مدى خطورة غزو الوعي الذي تسببه هذه الخدمة، من خلال عملية غسل الأدمغة التي يتعرضون لها.
باختصار، لا تقلّ هذه الخدمة خطورة عن الخدمة العسكرية، بل تعدّ مقدّمة طبيعية لفرض التجنيد الإجباري على العرب في الجيش الإسرائيلي بعد صقل وعي جديد يطمس الهوية القومية للشباب العرب، وبالتالي من يمارس الخدمة المدنيّة التطوّعيّة اليوم، فهو يجبر أبناءه على الخدمة المدنية الإلزاميّة غداً، وبالتالي يجبر أحفاده على الخدمة العسكريّة الإلزاميّة بعد غد في الجيش الإسرائيلي.