الوقت- بعد أربع سنوات على اندلاع الأزمة السورية، يبدو أن حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، لم تعد قادرة على حبس الأزمة السورية وراء الحدود أكثر من ذلك، حيث بدأت تداعيات الحرب السورية تتسرب بشكل كبير إلى الأراضي التركية، وسط حديث عن احتمالات لانتقال الحرب السورية إلى الداخل التركي.
وجاء التفجير الارهابي الذي قام به تنظيم "داعش" في مدينة سوروتش التركية على الحدود مع سوريا، والذي أودى بحياة 30 مواطناً من الأكراد الأتراك، ليشكل علامة فاصلة في سياق الأحداث المتسارعة على الساحة التركية، حيث ردّ حزب العمال الكردستاني الذي حمّل الحكومة التركية مسؤولية التفجير بقتل شرطيين تركيين، لتعلن الحكومة التركية بعدها وبشكل مفاجئ، الحرب على كل من "داعش"، وحزب العمال الكردستاني، في الوقت نفسه.
هذه الأحداث وضعت الحكومة التركية أمام تحديات شديدة الخطورة قد تنذر بانتقال الحرب إلى الداخل التركي، حيث تواجه تركيا العديد من الوقائع والظروف التي من شأنها أن تدفع الأحداث نحو مزيد من التصعيد والتعقيد، والتي نلخصها کالتالي:
اولاً: تنوع النسيج السكاني:
فعلى غرار التركيبة السكانية في سوريا، يتكون الشعب التركي من فسيفساء متنوعة من القوميات والمذاهب والأعراق، حيث أن هذا التنوع الذي يعتبر نقطة قوة للشعوب، يتحول إلى نقطة ضعف عند اندلاع الأزمات الداخلية، خاصة في ظل الخطاب الطائفي الذي تروج له العديد من وسائل الاعلام الغربية والخليجية، والتي تصور الصراع في المنطقة على أنه صراع طائفي. كما لا يغيب عن الذهن أن هامش الحرية الذي منحته الحكومة التركية للجماعات الارهابية العابرة إلى سوريا والعراق، داخل الأراضي التركية، قد يكون قد أسهم إلى حد معين في انتشار الفكر التكفيري والاقصائي في المجتمع التركي، وبالتالي تهديد النسيج الاجتماعي.
ثانياً: تدهور الوضع الاقتصادي:
خسرت تركيا بعد مشاركة قواتها في الحرب التي شنها حلف الناتو على ليبيا، سوقاً هامة كانت تعود عليها بعشرات المليارات، وبعد الموقف التركي من القضية السورية، والتعقيدات الناجمة عنه لاسيما قضية اللاجئين، سجل الاقتصاد التركي تراجعاً ملحوظاً، حيث توقف النمو الاقتصادي بعد أن وصل إلى أدنى مستوياته منذ العام 2003، كما ارتفعت نسبة البطالة، وتراجعت الليرة التركية أمام الدولار، كما تراجعت الاستثمارات الخارجية، في ظل تخوفات المستثمرين من الوضع الداخلي غير المستقر. ووفقاً لمراقبين فإن اخفاق حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة إنما مرده إلى الوضع الاقتصادي المتردي، والذي أثر سلباً على التفاف الشعب التركي حول حكومته.
ثالثاً: انتشار ظاهرة الارهاب:
قد يجادل البعض بأن الأرضية الفكرية للارهاب غير متوفرة في تركيا العلمانية كما في الدول العربية، لذلك لا خوف على تركيا من الارهاب، لكن ينبغي الالتفات أن الارهاب لم يستثن بلداناً أكثر علمانية، كأمريكا وفرنسا، كما أن الخطاب التعبوي لأردوغان الداعم للإخوان المسلمين خلال أحداث "الربيع العربي"، والذي استخدم فيه افكاراً راديكالية، جعل الأرضية مؤاتية في الداخل التركي لتقبل الأفكار المتطرفة. من ناحية أخرى تبدو تركيا اليوم مكشوفة أمام الحركات الارهابية التي كانت تتمتع بهامش كبير للحركة خلال السنوات السابقة، مما يزيد من مخاطر هذه الجماعات على الداخل التركي.
رابعاً: الخصومة مع الجوار:
فبعد سياسة "صفر مشاكل" مع الجوار، التي انتهجتها أنقرة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، أصبحت علاقة تركيا متوترة مع كل الجوار تقريباً. وقد عادت قاعدة "صفر مشاكل" بكثير من النتائج الايجابية على الاستقرار الداخلي التركي، حيث كان للعلاقة الطيبة التي جمعت الحكومة التركية مع سوريا والرئيس بشار الأسد قبل الأزمة، آثاراً ايجابية لجهة الحد من نشاط حزب العمال الكردستاني، واعلان الحزب إنهاء العمل المسلح، وبدء محادثات السلام مع النظام التركي، كما أسهمت في تمتين النسيج الاجتماعي بين الأكراد والاتراك والسنة والعلويين.
لكن الانعطافة الحادة والسريعة في موقف حكومة رجب طيب أردوغان من النظام السوري، والتحول إلى العداء الصريح له، لم يفقد تركيا ما اكتسبته من امتيازات فحسب، بل دفعت باتجاه تعميق حالة الانقسام السياسي في البلاد، وتباعد المواقف بين الحكومة التركية والمعارضة، وهذا يتجلى بتهافت الوفود من المعارضة التركية وحزب الشعب الجمهوري إلى سوريا، واعلانها تأييدها للرئيس الأسد، واستنكارها لـ "المؤامرة الامبريالية" عليه.
خامساً: انهيار عملية السلام مع الأكراد:
فبعد 13 عاماً من مساعي المصالحة مع حزب العمال الكردستاني، والتقدم الذي أحرزته تركيا في هذا المجال، تنهار هذه المساعي فجأة مع اعلان انقرة الحرب، على خلفية مقتل شرطيين أتراك، ويرى مراقبون أن الحرب التركية على تنظيم داعش الارهابي في الواقع لم تكن إلا حرباً على الأكراد، حيث قصفت الطائرات التركية مواقع وحدات الحماية الكردية السورية في ريف كوباني في قرية زور مغار، بالرغم من الدور الهام الذي أبرزته هذه الوحدات في قتال داعش. وعلى الصعيد الداخلي، دعا الرئيس أردوغان البرلمان التركي لرفع الحصانة عن سياسيين أكراد، حتى تتسنى محاكمتهم، كما خاطب رئيس حزب الشعوب الديموقراطي بحدة واصفاً تصريحاته بـ "الوقحة"، ومطالباً إياه "بعدم تجاوز حدوده"، وهو ما يعزيه مراقبون إلى نوايا لدى اردوغان لتحطيم حزب الشعوب الديمقراطي، الذي حصل في الانتخابات الأخيرة على 13 بالمئة من أصوات الناخبين، وحرم حزب أردوغان من نسبة الأصوات التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً.
ولاشك أن هذه السياسة التي ينتهجها العدالة والتنمية تجاه الأكراد الذين يمثلون 20 بالمئة من عدد السكان، ستزيد من حالة الاحتقان في المجتمع التركي، وستنعكس سلباً على استقرار هذا البلد، مما ينذر بارتفاع اعمال العنف في الداخل التركي.
سادساً: تقلص دور الجيش التركي:
حيث أن أردوغان وفي اطار تحقيق أهدافه السلطوية، عمد إلى اضعاف قدرة الجيش عبر إقالة وسجن عدد كبير من كبار الضباط من ذوي التأثير والنفوذ، وعين ضباطاً موالين، وهذا الأمر لن يكون بصالح تركيا في حال تطورت الأمور نحو حرب أهلية داخلية، حيث في هكذا ظروف يكون جيش البلد بمثابة صمام أمان له، ولكن عندما يصبح الجيش منحازاً إلى اتجاه سياسي معين، فهذا يعني أن الجيش سيزيد من تفاقم الأزمة بدلاً من حلها.
سابعاً: ازدياد النفوذ الأمريكي على القرار التركي:
وهذا أخطر ما قد تواجهه تركيا، فالتجربة التاريخية تشير إلى أن أمريكا ما تدخلت في مكان، إلا انتشرت فيه الحروب الداخلية، وهذا ما حصل في العراق وأفغانستان. واليوم لم يعد قرار الحرب والسلم بالكامل بيد الحكومة التركية، حيث أن سياسة أردوغان بتقليص دور الجيش التركي، جاء ليصب في مصلحة نفوذ حلف الناتو، والذي أصبح أردوغان معتمداً عليه بشكل أكبر. وهذا يعني نفوذاً أكبر لأمريكا والغرب على القرار التركي. ووفق ما أشار إليه الصحفي الفرنسي "تيري ميسان"، فإن قرار أردوغان بالحرب على تنظيم داعش، قد جاء بعد تهديد شديد اللهجة وجهه الرئيس أوباما في 22 يوليو/تموز الفائت، للرئيس التركي، بأن قراراً اتخذ مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ينص على فصل عضوية تركيا من الناتو، ما لم تغير تركيا موقفها من تنظيم داعش، وتلغي مشروع خط انابيب الغاز (توركيش استريم)، المزمع توقيعه مع روسيا.
إن الدولة التركية بحاجة إلى مراجعة شجاعة وسريعة لجميع مواقفها التي تبنتها خلال السنوات الأربع الماضية، لمحاولة تقليص الخسائر، ولملمة ما يمكن من الأزمات قبل اندلاعها، لأن ضحيتها في نهاية المطاف سيكون الشعب التركي المسلم، والذي يستحق كما بقية شعوب المنطقة أن يعيش بسلام.