الوقت- مع اقتراب المراحل الأخيرة من الأزمة السورية وبعد قمع معظم الجماعات الإرهابية في الأجزاء الوسطى والجنوبية والشرقية من سوريا على أيدي قوات الجيش العربي السوري، بدأت التكهنات تنتشر داخل الأوساط السياسية حول مستقبل المناطق السورية الشمالية وخاصة تلك التابعة لمحافظات إدلب والرقة والحسكة وحلب ودير الزور وفي غضون هذا كله، أكدت العديد من المصادر الإخبارية بأن الحكومة التركية قامت خلال العامين الماضيين باستهداف المناطق الشمالية السورية بحجة محاربة الإرهاب وتأمين حدودها، ولفتت تلك المصادر إلى أن "أنقرة" تعتزم احتلال هذه المناطق من خلال دعمها للجماعات الإرهابية، وعلى الرغم من خطة تركيا الجادة لاحتلال شمال سوريا، فقد رأينا مؤخراً أن الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وبعد اجتماعه مع نظيره الروسي "فلاديمير بوتين"، ينوي العودة إلى "اتفاقية أضنة"، في الواقع، إن التطورات السورية الحالية أثبتت لـ"أردوغان" وغيره من المسؤولين الأتراك أن احتلال شمال سوريا وحتى إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كم في منطقة تبعد أكثر من 500 كيلومتر عن شرق الفرات، أمر لا يمكن تنفيذه بسهولة، ولهذا فإنه يمكن اعتبار عودة تركيا إلى اتفاق "أضنة" فشلاً استراتيجياً مُنيت به أنقرة.
اتفاقية "أضنة".. تاريخها وأبرز ما جاء فيها
اقتضى ترسيم الحدود التركية السورية عقب التداعيات التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى باتفاقٍ تركي فرنسي، كون فرنسا كانت دولة انتداب على سوريا آنذاك ولقد نجم عن ذلك الاتفاق انتزاع تدريجي لأراضي شملت الحزام الشمالي لسوريا منذ ذلك الحين وحتى عام 1939، وبعد ذلك دخلت العلاقات التركية السورية، حتى نهاية التسعينيات مرحلة من التوتر وخلافات تركزت نقاطها حول قضايا الحدود والمياه والأكراد ومستقبل العراق والعلاقات مع أمريكا و"إسرائيل" والسياسات الإقليمية، وخلال الثمانينيات، كان العامل الرئيسي لتوتر العلاقات بين الطرفين التركي والسوري الدعم المستمر الذي توفره سوريا لحزب العمال الكردستاني في صراعه المسلح مع تركيا الذي اندلع سنة 1984، حيث كان زعيم الحزب "عبدالله أوجلان"، يقيم في العاصمة السورية دمشق التي سمحت له بتأسيس معسكرات تدريبية لعناصر حزبه في الأراضي السورية، وفي مطلع عام 1996 في عهد الرئيس التركي "سليمان دميرل" ورئيس الوزراء "مسعود يلماز"، أرسلت تركيا تحذيرات لسوريا في عهد "حافظ الأسد" بضرورة التوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني، وإلا ستضطر تركيا اتخاذ ما يلزم لحفظ أمنها القومي.
في أكتوبر 1998 اشتدت وتيرة الأزمة السياسية بين تركيا وسوريا، حيث حشدت أنقرة قواتها على الحدود السورية مهددة باجتياح الحدود السورية في حال استمرت الدولة السورية بدعم حزب العمال الكردستاني وتأمين ملاجئ آمنة لزعيم الحزب "أوجلان"، ولهذا فلقد تدخلت جامعة الدول العربية ومصر وإيران لوقف هذا التوتر الحاصل، والتوصل لحل سياسي يقتضي بحل الأزمة بين البلدين، ونتج عن تدخل الوساطات الإقليمية "اتفاقية أضنة" والتي سُميت أيضاً بالاتفاق الأمني، التي وُقعّت بين البلدين في مدينة أضنة التركية في 20 أكتوبر 1998.
ارتباك "أردوغان" ويأسه في أرض الشام
في الوضع الحالي، يمكن اعتبار عودة "رجب طيب أردوغان"، إلى اتفاقية "أضنة" مؤشراً على ارتباك وفشل خطط أنقرة الطموحة المتعلقة بسوريا، يذكر أنه منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، سارع الزعماء السياسيون الأتراك بقيادة "رجب طيب أردوغان" إلى اتخاذ خطوات للإطاحة بالرئيس "الأسد"، وبعد فشل "أردوغان" في إقامة منطقة آمنة، في السنوات التي اعقبت عام 2013، قامت تركيا باتخاذ طريق لدعم القوى المتطرفة والإرهابية المعارضة للحكومة المركزية في سوريا والمعارضة في نفس الوقت للأكراد السوريين.
وفي ظل هذه الظروف، وحتى بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، انتشرت العديد من المخاوف بشأن تعاون "أنقرة" مع هذه المجموعة الإرهابية وبعد ذلك تمكّنت حكومة حزب العدالة والتنمية من شنّ هجوم عسكري على مناطق شمال سوريا وفي عام 2017 تمكّنت من السيطرة على مدينة جرابلس والباب واعزاز، وعلى الرغم من استمرار آمال الأتراك فيما يتعلق بالسيطرة الكاملة على شمال سوريا، كتب الرئيس "دونالد ترامب" على تويتر محذراً الجانب التركي، قائلاً "إذا قمتم بشن هجوم عسكري على الأكراد، فإننا سنقوم بتدمير الاقتصاد التركي"، وهذه التهديدات نسفت الحلم التركي وقضت عليه إلى الأبد.
في الواقع وبالنظر إلى سياسة تركيا تجاه سوريا، يمكن القول إن جميع خطط أنقرة قد فشلت وخلافاً لتوقعات الحكومة التركية، لم يسقط الرئيس "بشار الأسد" في سوريا فحسب وإنما أيضاً نجحت دمشق على مدى السنوات الثلاث الماضية في فرض سيادتها على مختلف مناطق البلاد، وفي وقتنا الحالي أصبح الرئيس "اردوغان" مرتبكاً حول سياسة حكومته تجاه الأكراد السوريين، خاصة بعد تهديدات الرئيس "ترامب" لأنقرة.
وفي ضوء هذا كله، فإن عودة الرئيس "أردوغان" في وقتنا الراهن إلى اتفاقية "أضنة"، يعني بأن أنقرة تتحرك في نحو الدخول في تعاون مع دمشق وتتحرك أيضاً باتجاه هزيمة اقتراحات الرئيس "دونالد ترامب" ببناء جدار فاصل بين تركيا وسوريا، وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الحل الأفضل للحكومة التركية فيما يتعلق بالأزمة السورية هي العودة إلى تلك الاتفاقية واحترام السيادة والإرادة الوطنية للشعب السوري ولهذا، يمكن اعتبار استراتيجية أنقرة ودمشق بالعودة إلى اتفاقية "أضنة" حدثاً إيجابياً يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في حل مشكلات الدولة السورية.