الوقت - ترتبط هيمنة القوى الكبرى على مناطق مختلفة في العالم بمدى قدرتها على تحديد الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها في تلك المناطق، اضافة إلى استعداد قاطني هذه المناطق لتقبل هذه الهيمنة.
ودأبت أمريكا باعتبارها إحدى القوى الكبرى المؤثرة في العالم لما تمتلكه من امكانات وقدرات سياسية وعسكرية واعلامية هائلة على السعي لفرض هيمنتها على مناطق كثيرة في العالم لتحقيق مصالحها واهدافها الاستراتيجية على المستويين الداخلي والخارجي.
وخلال فترة الحرب الباردة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي كان العالم تحت هيمنة أمريكا وروسيا طيلة تلك الفترة، إلاّ ان سقوط الاتحاد السوفيتي اتاح لأمريكا امكانية بسط نفوذها على مناطق أخرى في العالم وباتت واشنطن تتفرد بصناعة النظام والقرار الدولي على أساس القطب الواحد. ولهذا اطلق عليها الكثير من المراقبين لقب "شرطي العالم". فمنذ اكثر من عقدين من الزمان سنحت الظروف المؤاتية لأمريكا بمد نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في المناطق التي كانت في السابق ضمن النفوذ السوفيتي.
وتوهم البعض ان هذه الحقبة التي هيمن فيها النظام الليبرالي الغربي الذي تقوده أمريكا على العالم ستوفر الحلول لجميع المشاكل والأزمات التي تواجهها البشرية لتصوره بأن هذا النظام يدعو فعلاً لتطبيق الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان إلا انه اكتشف فيما بعد كذب وزيف هذه المزاعم وبأدلة كثيرة وواضحة لاتحتاج إلى نقاش.
وسعت أمريكا إلى بسط هيمنتها على العالم ومنع بروز أي قوة من شأنها أن تزاحمها على مناطق نفوذها في ارجاء المعمورة، واتبعت لتحقيق هذا الهدف منهجين أساسيين يمكن اجمالهما على النحو التالي:
1 – الوقوف بكل ما أوتيت من قوة بوجه أي دولة تحاول الظهور كمنافس لها في أي مجال من المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية وفي أي منطقة من العالم.
2 – منع أي محاولة تهدف إلى تغيير ميزان القوى في العالم الذي تسعى أمريكا لإبقائه تحت سيطرتها بشكل يضمن مصالحها ويحقق أهدافها في كافة انحاء العالم.
ورغم ذلك تعرضت السياسة الأمريكية في كثير من الاحيان إلى هزات حقيقية دعت المراقبين إلى التساؤل عن مدى قدرة وفعالية هذه السياسة في إدارة الأزمات التي تواجهها واشنطن بين الحين والآخر كالأزمتين السورية والاوكرانية.
ورغم المكاسب التي جنتها أمريكا من هذه السياسة خلال العقود الماضية على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، إلاّ انها بدأت وبمرور الوقت تفقد قدرتها على تطويق الازمات في مناطق مختلفة من العالم، ما يؤكد ان التأثير الدولي لواشنطن بدأ يضمحل رغم تظاهرها بامتلاك القوة للتحكم بهذه الازمات.
ويمكن القول ان أمريكا باتت في حيرة من أمرها في كيفية التصرف مع الازمات لسببين رئيسيين: الاول عدم قدرتها على اقناع حلفائها خصوصاً الاوروبيين على مواصلة الطريق حتى النهاية كما حصل بعد غزوها للعراق، والثاني يكمن في ان اكثر الشعوب إن لم نقل جميعها باتت تدرك تماماً أن أي فشل تمنى به أمريكا في أي مكان من العالم يعود اساساً إلى وجود خلل في منظومتها الفكرية والسياسية التي تسعى من خلالها الى الهيمنة على مقدرات الدول الاخرى.
ومن خلال دراسة التجارب والوقائع التي واجهتها أمريكا خلال العقدين الماضيين يبدو جلياً أن هناك عاملين أساسيين وراء ضعف هذه الدولة على المستويين الخارجي والداخلي هما: العامل الاقتصادي والعامل الجيوبوليتيكي.
فعلى الصعيد الاقتصادي تعرضت أمريكا إلى هزة مالية كبيرة منذ العام 2008 ولازالت مستمرة حتى الآن رغم محاولات واشنطن التظاهر بأنها تسيطر عليها. وتسببت هذه الهزة بآثار مدمرة على الاقتصاد الامريكي، كما انها افقدت واشنطن هيبتها بين الدول الاخرى، ولم يعد يُنظر اليها على انها قوة اقتصادية عظمى كما في السابق خصوصاً بعد ظهور قطب اقتصادي قوي ومؤثر في شرق آسيا تقوده الصين وبعض الدول المجاورة لها في هذه المنطقة المهمة والحساسة من العالم.
ويعتقد المراقبون ان الازمة الاقتصادية التي تتعرض لها أمريكا ستستمر، وقد تطول لسنوات أخرى طالما استمرت واشنطن في سياساتها التوسعية التي أرهقت ميزانيتها والتي انعكست آثارها على المجتمع الامريكي من خلال الضرائب المرتفعة التي أرهقت كاهل المواطن الامريكي في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية.
والسبب الآخر الذي أدى إلى تراجع هيمنة أمريكا على العالم يكمن في الاخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها هذه الدولة والتي تجلت بوضوح في تخبطها بالتعامل مع الازمتين السورية والاوكرانية. فهاتان الازمتان وكما يعتقد اغلب المراقبين بدأتا نتيجة تدخل أمريكا بالشؤون الداخلية لسوريا وأوكرانيا ولازالتا مستمرتين بسبب تواصل هذا التدخل الذي انعكست آثاره سلباً على قدرة واشنطن وأسهم في تدني مستوى إحترامها في المحافل الدولية. فأمريكا كانت تتصور أن بمقدورها القضاء على حكومة الرئيس السوري بشار الاسد من خلال دعم الجماعات الارهابية في هذا البلد، إلاّ انها ادركت بمرور الوقت ان هذا الأمر لايمكن تحقيقه على أرض الواقع بفعل صلابة وقوة الشعب السوري وقواه المسلحة. كما منيت واشنطن بهزيمة في أوكرانيا تجلت بعدم قدرتها على ازاحة نظام الرئيس (فيكتور يانوكوفيتش) واستبداله بنظام آخر موالٍ للغرب تمهيداً لضم هذا البلد إلى حلف الناتو الذي تتزعمه أمريكا.
واخيراً يمكن القول إن أمريكا باتت تدرك قبل غيرها حجم المأزق الذي وقعت فيه نتيجة تدخلها في سوريا واوكرانيا، إلاّ أنها في الوقت نفسه ليست مستعدة للاعتراف بهذا الفشل الاستراتيجي لانها لازالت تعيش الاوهام بأنها القوة الوحيدة المسيطرة على مقدرات العالم ناسية أو متناسية بأن زمن هذه الأفكار قد ولّى ولن يعود مجدداً، خصوصا بعد عودة روسيا بقوة إلى المعادلة الدولية، اضافة إلى القوى الأخرى التي أثبتت للعالم قدرتها على لعب دور مؤثر وفعّال على المستويين الاقليمي والدولي في مختلف المجالات وفي طليعتها الصين والهند وإيران.