الوقت - حقق الاتحاد الأوروبي على مدى العقد الماضي مكاسب كبيرة في السياسة الخارجية بما في ذلك الصفقة النووية مع إيران، فرض عقوبات على روسيا، إقامة حوار فعال بين كوسوفو وصربيا؛ تعزيز نفوذه في بعض البلدان الإفريقية والتوقيع على اتفاقية اللاجئين مع تركيا. ومع ذلك كلّه فشلت السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في إثبات نفسها في الكثير من القضايا الحساسة، ومنها الفشل في إيجاد حل لأزمة اللجوء التي استمرت رغم توقيعه الاتفاق مع تركيا، والفشل في اتخاذ موقف واضح وشفاف من القضية الفلسطينية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إذ اتسم موقفها بالضبابية والرمادية، والفشل أيضاً في حل الأزمات التي ضربت الشرق الأوسط وبالأخص ليبيا وسوريا كما أنها فشلت في حل الصراع الداخلي في أوكرانيا.
في الأزمة الليبية، فشل الاتحاد الأوروبي، بعد سقوط نظام القذافي، في إيجاد حلول لوقف مسلسل الفوضى التي ضربت البلاد ما أدّى إلى ظهور تنظيم داعش هناك، الأمر الذي شكل خطراً قومياً على أوروبا إذ تعتبر ليبيا بوابة إفريقيا إلى أوروبا، هذا الفشل يعود إلى أسباب عديدة من بينها الصراع القائم بين بعض الدول الأوروبية الكبيرة على النفوذ في ليبيا ما ساهم بشكل رئيسي في إطالة الأزمة، وعلى سبيل المثال انتقدت إيطاليا خطة الرئيس الفرنسي لإبرام اتفاق مع المجتمع الدولي من أجل دعم الجنرال خليفة حفتر في إدارة البلاد.
وفي هذا الشأن يقول محللون إنه من ضمن الأسباب الرئيسية الأخرى التي أدّت إلى هذه الإخفاقات والتي جعلت من السياسة الخارجية الأوروبية غير متكاملة مقارنة بالجوانب الأخرى للمشروع الأوروبي الكبير، هو ميل بلدان الاتحاد الأوروبي الكبرى إلى اعتبار أهدافها الوطنية الخاصة من الأولويات على حساب أولويات الاتحاد ككل، حيث تبذل بعض البلدان الأوروبية الجهود كي تتحرر من قيود السياسة الخارجية للاتحاد طمعاً في تحقيق مصالحها ومطامعها في العالم.
وازدادت هذه النزعة القومية للبلدان الأوروبية الكبيرة كفرنسا وإيطاليا واسبانيا وألمانيا مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث أخذت كل دولة على حدة تفكّر في مصالحها الوطنية على حساب مصالح الاتحاد الأوروبي وقيمه. وفي هذا الإطار، كان يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه أحد أهم المنظمات والمؤسسات الدولية التي تساعد في تحقيق الأهداف الوطنية للبلدان الكبرى، وخاصة في المجالات التي تتطلب عملاً جماعياً مثل العقوبات الروسية والاتفاق النووي، أما اليوم أصبح واضحاً للجميع أن السعي وراء سياسة خارجية أوروبية متماسكة صار يشكّل تحدياً كبيراً لجميع دول الاتحاد الأوروبي.
شكّل خروج البريطانيين من الاتحاد الأوروبي على إثر الاستفتاء الشعبي الذي أحدث ما يشبه الزلزال في أوروبا لما له من انعكاسات ودلالات سياسية واقتصادية واجتماعية تؤشر إلى مدى المتغيرات الحاصلة في البيئة الأوروبية الاقتصادية والاجتماعية، واحتمالات أن تقود هذه المتغيرات إلى ولادة مرحلة جديدة في أوروبا والعالم بحجم وزن وتأثير الاتحاد الأوروبي في الحلبة الدولية. وكما ذكرنا سابقاً إن خروج بريطانيا أدّى إلى تنامي النزعة القومية بدلاً من الانفتاح، ومثل هذه النزعة لا تقتصر على بريطانيا فقط بل تطول أغلب دول الاتحاد الأوروبي، وقد ظهرت هذه النزعة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، لكنها تنامت كثيراً بعد ازدياد أعداد المهاجرين من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى الدول الأوروبية، ما أدّى إلى تقوية التيار القومي المتطرف الذي يرى في المهاجرين عبئاً ثقيلاً على شعوب أوروبا التي بدأت تئن من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ومن البطالة.
تنامي النزعة القومية في أوروبا، أظهر بشكل واضح تضارب المصالح بين أعضاء الاتحاد في بعض المجالات، لكن كانت تأتي كلها تحت شعار السياسة الموحدة للخارجية الأوروبية. ونحن نعلم أن بلدان الاتحاد بشكل عام يمكن أن يكون لها أهداف مشتركة، وفي نفس الوقت، تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة معينة، على سبيل المثال في علاقاتها مع القوى الأجنبية، والمصالح الخاصة الإقليمية والتنافس على المصالح الاقتصادية، ومواجهة القيود السياسية المحلية، وهذا ما ينطبق على الاتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، على الرغم من العمل الجماعي للاتحاد الأوروبي في مقاطعة روسيا، إلا أن هناك اختلافاً في وجهات النظر بين أعضائه بالنسبة لهذا الموضوع حيث تعتبر بعض الدول في منطقة بحر البلطيق وأوروبا الشرقية أن روسيا تشكل تهديداً قوياً لأوروبا، بينما يؤكد جنوب أوروبا على أولوية مكافحة المخاطر الأمنية في جنوب أوروبا كأزمة النزوح العالمية من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا، في حين ترى بعض الدول الأوروبية أن لديها مصالح خاصة في العلاقات مع روسيا، وخاصة في مجال الطاقة.
لقد سمح التنافس بين مصالح الدول الأوروبية إلى دخول التنين الصيني إلى السوق الأوروبية بشكل كبير، وتوسع نفوذه ليطول أجزاءً كبيرة من القارة العجوز، ما دفع الاتحاد إلى وضع خطة لكبح جماح التنين، ولقد استطاع أن يحرز تقدماً ضئيلاً في تنفيذ سياسة خارجية متماسكة تجاه النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين وكمثال على ذلك، تشهد أوروبا حالياً إنشاء مجموعة غير رسمية من قبل الصين، تحت عنوان "المبادرة 1 + 16" ، تتكون من الصين و 16 دولة من أوروبا الشرقية ووسط أوروبا وأعضاء من خارج الاتحاد الأوروبي لتنفيذ مخططات اقتصادية صينية كبيرة في القارة العجوز.