الوقت- إن العلاقة الثلاثية بين الحكم السياسي والعسكر والشعب، تشكل فيما بينها مثلث يختلف شكله وهيكليته وفقا لمجموعة من المعايير التي قد تصنع منه مثلثا متساوي الأضلاع أو قائماً وغيرها من الأشكال التي تنسج فيما بينها خارطة طريق لصيغة الحكم في هذه الدولة أو تلك، وهذه الأشكال المثلثية قابلة للتغير والتغيير وفقا لمتطلبات كل مرحلة والتي تؤثر فيها أمور عديدة أبرزها ثورات الشعوب وموقف المؤسسة العسكرية من هذه الثورات.
واليوم سنتحدث عن أحد أهم زوايا هذا المثلث والمتمثلة بالمؤسسة العسكرية والتي يمكن ان نشبهها بـ"بيضة القبان"، نظرا لمدى حساسية موقفها من أي تغيير قد يجري في الحكم أو أي ثورة قد تحدث، ومع انطلاقة ما يسمى "الربيع العربي" اختلفت مواقف الجيوش العربية من هذه الثورات بين مساند لها أو معارض لهذه التحركات وفقا لمصالح المؤسسة العسكرية بحد ذاتها أو وفقا لما تراه هذه المؤسسة مصلحة عليا للشعب وهناك مؤسسات وقفت على الحياد مع بدء هذه الاحتجاجات.
وللوقوف عند الأسباب التي تدفع المؤسسة العسكرية لتبني موقف ما من عدمه، لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار نقطتين هامتين تحدث عنهما ويليام تايلور "الخبير العسكري والأستاذ المساعد في السياسة الخارجيّة الأمريكية في أكاديمية ويستب ونيت العسكرية" في كتاب "الردود العسكريّة على الانتفاضات العربية ومستقبل العلاقات المدنيّة-العسكرية في الشرق الأوسط"، وتركز النقطة الأولى على "المصالح" ويقصد فيها مجموعة من العناصر الأساسية المتمثلة بالمركز الاجتماعي للعسكر، والتمويل، والمعدات، والاستقلالية في اتخاذ القرارات.
أما النقطة الثانية فتتحدث عن موضوع "الرقابة"، ويدخل فيها تأثير العادات الوطنية والاجتماعية في ثقافة العسكر، وأماكن الخدمة وبعدها الجغرافي عن جماعاتهم، والرقابة التي يمارسها على ميزانيتهم السياسيون، ورقابة المؤسسات الحكومية على دورهم وسلطاتهم، وتنظيمهم العسكري، وسيطرة النظام على مراكز اتخاذ القرار وتعيينات الضباط في المراتب العليا، والرقابة الدستورية والقانونية على مهماتهم وميزانيتهم.
وتنبع أهمية العسكر من كونهم يضمون شريحة واسعة من أبناء الشعب على اختلاف مناطقهم وانتماءاتهم، ومن كونهم من يحمون الديار ويدافعون عن تراب الوطن ووحدة أراضيه، والأهم من هذا فشلت الكثير من الأنظمة السياسية في كسب تأييد شعبهم وبالتالي كان لابد من البحث عن مؤسسة ترعى حقوق المواطنين وتؤمن لهم حياة جيدة إلى حد ما، وعندما يكون هناك غضب شعبي "اقتصادي"، كما في الغالب، من الحكومات والتيارات السياسية، يبقى الجيش هو الملاذ الوحيد نظراً لبعده عن الفساد الاقتصادي، أو بقاء هذا الفساد داخل الأروقة العسكرية، وبعيداً عن الشارع.
ولا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك فجوة بين القيادات السياسية والعسكرية، ينجح في بسط يده على الحكم من ينتهزها، ففي حين يحدّد القادة السياسيون السياسات والأهداف المرجوّة من العسكر، وفي الغالب يسعون لأن تصبّ في صالح مشروعهم السياسي، يعمل العسكر على تحديد الوسائل الضرورية والملائمة للوصول إلى الأهداف المرجوّة.
وفي أغلب دول المنطقة تسعى الحكومات لإبعاد العسكر عن الحياة السياسية، لكن ما يجعل الأمر غير منصف هو تدخل السياسيين في العسكر وهنا يحدث خلل في تركيبة البلد، ومؤخرا برزت قاعدة جديدة ترسّخت لدى المؤسسات العسكرية بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، وما شهدته المنطقة من ظهور للجماعات التكفيرية أحرقت الأخضر واليابس، وهي عبارة عن استلام الحكم خلال الانتفاضات الشعبيّة.
وعن الثورات الأخيرة وطريقة تعامل المؤسسة العسكرية معها يمكن أن نذكر الأمثلة التالية:
أولاً: ما حدث في مصر مع بداية "الربيع العربي" جعل المؤسسة العسكرية تفكر مليا قبل اتخاذ قرار واضح من انتفاضة الشعب هناك، لأنه ووفقا للنقطة السابقة الذكر شعر الجيش بأن هناك كثيرا ليخسره وقليلاً ليكسبه لذلك قرر الوقوف على الحياد، لكن هذا الأمر لم يدم طويلا لسببين الأول: هو إصرار غالبية الشعب على الإطاحة بنظام حسني مبارك والثاني: الضغط الأمريكي لإجباره على التنحي، وبعد وصول مرسي إلى السلطة نفذ الجيش المصري انقلابا عسكريا على الرئيس مرسي وأطاحوا به وفقا لمطالب الشعب.
ثانياً: في ليبيا وقف الجيش الليبي في البداية إلى جانب القذافي ودعموه في قمع المحتجين، إلا أن المؤسسة العسكرية لم تستطع الصمود طويلا في وجه المحتجين، نظرا للانشقاقات الكبيرة التي حصلت في صفوف الجيش على مستوى القيادات، وتدخل دول كبيرة مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا للإطاحة بالقذافي ما سرع من عملية انهيار المؤسسة العسكرية وانهيار ليبيا معها.
ثالثاً: محاولة الانقلاب العسكري في تركيا صيف عام 2016، حيث حاول مجموعة من قادة الجيش التركي تنفيذ انقلاب عسكري على نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، وتمكنوا من تحريك جنود ومعدات عسكرية إلى وسط الشوارع، إلا أن الشعب التركي وقف لهم في المرصاد وأفشل الانقلاب لأنهم رأوا في ذلك مصلحة لبلادهم واستقرارها.
ختاماً؛ المؤسسة العسكرية لأي دولة هي الضامن الأساسي لأمن واستقرار البلاد في حال تم التعامل معها وفقا لرؤى وخطط منهجية وأسلوب راقي وعدم التدخل في شؤونها الداخلية من قبل السياسيين أو غيرهم، لأن أي خلل في هذه المؤسسة قد يحول أي بلد الى جحيم يصعب العيش فيه.