الوقت- لا يمكن التقليل من صلابة الطرف الروسي في التعاطي مع الأزمات، ولعل التحذير الذي أطلقه الرئيس الروسي بوتين، لدول الإتحاد الأوروبي، بدأ يؤتي مفعوله. ولعل دول الإتحاد أصبحت متيقنة أن العقوبات على روسيا ستضرها أكثر من روسيا. وهنا يجري الحديث عن ألمانيا النموذج الذي وعى الأزمة مبكراً، والذي طالما عبر عن مخاوفه. فكيف يمكن وصف ما ستؤول إليه أمور الدول الأوروبية في حال مضيها بالعقوبات، من خلال النموذج الألماني؟
حذر ممثلو الاقتصاد الألماني مجدداً من الآثار المالية والاقتصادية السلبية على اقتصاد البلد ودول أوروبية أخرى الناتجة عن تنامي التوتر بين الغرب وروسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت على موسكو وإمكان توسيعها. فقد أشاروا الى أن مصير عشرات آلاف العمال الألمان مرهون بالعلاقات الاقتصادية مع روسيا، لافتين إلى أن 60 ألفاً من أصل 300 ألف ألماني يعيشون من التجارة مع هذا البلد قد خسروا عملهم حتى الآن. وقال رئيس هيئة الشرق في الاقتصاد الألماني إكهارد كوردس إن العامين الحالي والمقبل "سيكونان صعبين جداً". مطالباً حكومته بالابتعاد عن المواقف المنحازة، والعمل على دعوة طرفي النزاع إلى الجلوس حول طاولة مفاوضات للتوصل إلى حلٍ للنزاع القائم. وحذر من أن الخطر "لا يكمن في خسارة روسيا كسوق تجارية فقط، بل كشريك أوروبي أيضاً". ولفت كوردس إلى أن استطلاعاً أجري مؤخراً بين الشركات الألمانية المتعاملة مع روسيا، أظهر أن نحو 75 في المئة من مسؤوليها أعربوا عن عدم اقتناعهم بجدوى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو. وأشار إلى أن الصادرات الألمانية إلى السوق الروسية تراجعت حتى الآن بمعدل 20 في المئة تقريباً. فكيف يمكن تحليل الأثر عملياً؟
لم تنجح سياسة العقوبات من تحقيق الكثير من أهدافها، وإن كانت قد أدت في بدايتها الى جعل روسيا تبدو وكأنها على حافة الإفلاس. وهذا ما ساد في أواسط كانون الأول الماضي، بسبب انهيار قيمة الروبل إزاء الدولار واليورو ومعه قيمة الأسهم في بورصة موسكو، لكن الأمر عاد ليستتب من جديد. فالمراقب للأسواق المالية الروسية، يعرف ومن مؤشر "ار تي اس"، أن العمل بالدولار استعاد خلال الشهرين الماضيين 50 في المئة من قيمته السابقة، كما ارتفع سعر الروبل مجدداً، وكذلك سعر النفط والغاز في الأسواق الدولية، ولو قليلاً. لكن وفي ظل التحسن الروسي، كيف يمكن وصف الوضع في ألمانيا؟
لا شك أن لسياسات الدول انعكاساً مباشراً على الوضع الاقتصادي، وهو ما يدركه كافة المحللين الاقتصاديين. لذلك فإن رد الفعل الطبيعي لأي وضعٍ من هذا النوع يكون عادةً في تسريح الموظفين، أي طرد عددٍ من العاملين، الى جانب قيام المستثمرين، بتخفيض حجم استثماراتهم نتيجة نسبة الخطر المتزايد والمتوقع ارتفاعه. ولعل الخطر الأكبر الذي تتخوف منه أوروبا هو قيام روسيا بإدارة ظهرها للسوق الأوروبية والتوجه الى السوق الصينية كبديل. وهو ما يقوم به الروس فعلاً عبر توقيع اتفاقاتٍ جديدة، وهذا التحليل تؤكده الحقائق. ففي استطلاع أجرته "غرفة التجارة الألمانية – الروسية" في ألمانيا بين أعضائها، أكد مسؤولو 30 في المئة من الشركات الألمانية أنهم يعتزمون خفض عدد العاملين لديهم في روسيا أيضاً. فيما ذكر 75 في المئة من مسؤولي الشركات العضو في الغرفة أنهم سيتوقفون عن الاستثمار في أعمالهم هناك بسبب العقوبات المفروضة، حيث ذكر 91 في المئة منهم أنهم ينتظرون مردوداً سلبياً هذه السنة. وأشار القائمون على الاستطلاع إلى أن أجواء الشركات المستطلَعة "كانت الأسوأ خلال السنين الـ 10 الماضية". لذلك نجد أن ألمانيا تسعى إلى التخفيف من وطأة العقوبات عبر تقديم عرض إلى الحكومة الروسية لإنشاء منطقة حرة وفضاء اقتصادي مشترك يمكّن الشركات الألمانية والروسية من متابعة التعامل بينهما.
إذاً من الواضح أن الثبات الروسي لقي مبتغاه، فيما يسعى الأوروبيون لإعادة الأمور الى نصابها. ولعل الطرف الأوروبي اليوم يدرك أكثر من أي وقتٍ مضى أن أمريكا أوقعت به خدمةً لمصالحها. وهو الأمر الذي راهن الروس على أن يعيه الأوروبيون. فهل ستنقل الدول الأوروبية هذا الوعي الى مرحلة التطبيق؟