الوقت- تتسارع التطورات في منطقة المشرق بشكل يعكس حجم التحوّلات العميقة التي تشهدها الساحة الإقليمية، في ظل تصاعد الاعتداءات التي ينفذها الكيان الصهيوني ضد الأراضي السورية ومحاولاته فرض وقائع سياسية وأمنية جديدة تتجاوز قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عقود، وفي هذا السياق، صدرت عن مقام بوازرة الخارجية اليمنية تحذيرات لافتة بشأن خطورة المشروع الصهيوني المتنامي، وما يحمله من تداعيات مباشرة على الأمن القومي العربي والإسلامي، وخصوصاً مع وجود قوى محلية في شمال سوريا تتعامل مع تلك التطورات بقدر من التراخي.
هذه التحذيرات تعيد التأكيد على أن المنطقة تقف أمام لحظة حساسة تتداخل فيها أدوار القوى الدولية والإقليمية مع نشاط الاحتلال، عبر اقترابه من تخوم دمشق ومحاولته إعادة صياغة معادلات القوة، إنّ ترابط الوضعين السوري واللبناني، وتزايد وتيرة التدخلات الأجنبية، واستفادة الاحتلال من الانقسام القائم، تؤكد أن المنطقة أمام مرحلة مفصلية تتطلب يقظة سياسية واستراتيجية شاملة.
تحوّل الاعتداءات الصهيونية في سوريا إلى مشروع استراتيجي شامل
تشير التحذيرات الصادرة عن مقام بوازرة الخارجية اليمنية إلى أن الاعتداءات الأخيرة التي ينفذها الكيان الصهيوني في سوريا تجاوزت الطابع العسكري التقليدي، لتصبح جزءاً من مشروع استراتيجي متكامل يهدف إلى تغيير البيئة الأمنية في المنطقة ومحاصرة سوريا، فخرق اتفاق عام 1974 واقتراب الاحتلال من محيط العاصمة يعكسان محاولة حثيثة لفرض واقع جديد بالقوة، مستنداً إلى ظروف داخلية وإقليمية مضطربة، ويأتي هذا المسار امتداداً لمرحلة بدأت مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، حين سعت قوى دولية وإقليمية، وفق اعترافات صهيونية سابقة، إلى إسقاط الدولة السورية وتفتيت قدراتها. المستجد اليوم هو توظيف الاحتلال للانقسامات القائمة في مناطق سيطرة الجولاني لتمرير تصورات أمنية خطيرة، وخصوصاً مع طرح مفردات مثل “حسن الجوار” و“التسوية”، وهي عبارات لا تنفصل عن محاولات إضفاء شرعية شكلية على مساعٍ تسهم في إعادة رسم المشهد العسكري والسياسي في الشمال السوري، إنّ هذه التطورات، في مجملها، تشكل تهديداً مباشراً لوحدة سوريا وللاستقرار الإقليمي، وسط سعي متواصل من الكيان الصهيوني لاستثمار أي فراغ سياسي أو أمني للتقدم نحو أهدافه الاستراتيجية.
ترابط الساحتين السورية واللبنانية في مواجهة الضغوط الصهيونية المتصاعدة
لا يمكن فصل ما يجري في سوريا عن المشهد اللبناني الذي يشكّل أحد أهم ميادين المواجهة مع الكيان الصهيوني، فالتحذيرات اليمنية تشير بوضوح إلى أن أي ارتباك لبناني في اتخاذ القرار السياسي أو الأمني قد يُمكّن الاحتلال من إعادة طرح سيناريوهات مشابهة لاجتياح عام 1982 ولكن بطرق تتوافق مع الظروف الراهنة، يعمل الاحتلال، بدعم أمريكي، على استثمار هشاشة الأوضاع الداخلية في لبنان، سواء من خلال الضغوط المباشرة أو عبر مراكمة المكاسب في الحدود الشمالية، بما يتيح له تضييق الخناق على عناصر القوة في البلاد، وهو يتعامل مع الساحتين السورية واللبنانية بوصفهما جبهة واحدة مترابطة، الأمر الذي يجعل الضغط على إحداهما جزءاً من استراتيجية إضعاف الأخرى، ويتضح من مجمل التحركات العسكرية والسياسية أن هناك سعياً حثيثاً لخلق بيئة إقليمية رخوة، تمكّن الاحتلال من التحرك بأريحية أكبر وفرض ترتيبات تخدم أهدافه بعيدة المدى، وهذا يتطلب من القوى اللبنانية انتهاج سياسات متماسكة وواعية تحول دون استغلال الاحتلال للتباينات الداخلية أو التحديات الاقتصادية من أجل تحقيق اختراقات استراتيجية.
مخططات تفريغ سوريا من قوتها الدفاعية وإعادة تشكيل الجغرافيا الأمنية
ترتكز التحذيرات اليمنية على رؤية متقدمة لمخطط الكيان الصهيوني الساعي إلى تحويل أجزاء واسعة من سوريا إلى مناطق منزوعة السلاح، في إطار مشروع يهدف إلى إضعاف القدرات الدفاعية السورية وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في البلاد بما يخدم مصالح الاحتلال، وتكشف الضربات الجوية المتكررة، والنشاط الاستخباراتي المتزايد، ومحاولات الاقتراب من مراكز حيوية، عن أن المرحلة المقبلة قد تشهد مزيداً من الضغوط الرامية إلى فرض واقع أمني جديد في الجنوب والشمال السوريين على حد سواء.
كما تسعى بعض القوى المحلية في شمال سوريا، تحت سلطة الجولاني، إلى التعامل مع هذا الواقع بعقلية “التسوية”، رغم ثبوت عدم التزام الاحتلال بأي اتفاق أو تفاهم على مدى تاريخه، إن ربط التطورات في سوريا بما يجري في غزة يعكس حقيقة أن الاحتلال يتعامل مع الجبهات العربية كوحدة متكاملة، بحيث يشكل إضعاف أي ساحة مدخلاً للتأثير في الساحات الأخرى، وهذا ما يجعل المرحلة الراهنة من أخطر المراحل الأمنية والسياسية في تاريخ المنطقة الحديث، ويؤكد الحاجة إلى مقاربة عربية شاملة لمواجهة التهديدات المتصاعدة.
في النهاية، تُبرز التحذيرات الصادرة عن مقام بوازرة الخارجية اليمنية حجم المخاطر التي تواجه المنطقة في ظل تصاعد النشاط العسكري والسياسي للكيان الصهيوني، وسعيه إلى فرض معادلات جديدة تعيد تشكيل المشهد الإقليمي برمته، فاستهداف سوريا، والضغط المتواصل على لبنان، واستغلال الانقسامات الداخلية في بعض المناطق، كلها عناصر ضمن مشروع واحد يهدف إلى تقويض الأمن القومي العربي وضمان تفوق الاحتلال لسنوات طويلة.
إن طبيعة هذه التحديات تفرض على الدول العربية التعامل مع الملف بوصفه قضية استراتيجية مشتركة، وليس مجرد أزمة قطرية منفصلة، فالمشهد الأمني مترابط، وأي خلل في إحدى الساحات سينعكس بشكل مباشر على استقرار المنطقة بأكملها، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى موقف عربي موحد ورؤية تنطلق من تعزيز عناصر القوة والحد من قدرة الاحتلال على استغلال الفجوات السياسية، بما يحفظ سيادة الدول ويمنع فرض واقع جديد يغيّر توازنات المنطقة بصورة خطيرة.
