الوقت- تعيش المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني واحدة من أكثر مراحلها حساسية خلال السنوات الأخيرة، إذ تتقاطع فيها الأزمات البنيوية مع ضغوط سياسية غير مسبوقة، فبينما تكشف التقارير العبرية عن نقص حاد في الكادر البشري وتراجع كبير في رغبة العسكريين بالاستمرار في الخدمة، يدفع مكتب نتانیاهو نحو تمرير قانون يمنح الحریدیین تسهيلات واسعة للتهرب من الخدمة الإلزامية، الأمر الذي فجّر موجة اعتراض داخل الجيش.
وفي وقتٍ تتصاعد فيه التوترات على عدة جبهات ويتطلب الوضع الأمني تعزيز الخدمة العادية والاحتياطية، يجد الجيش نفسه أمام معادلة معقدة: زيادة المهام الأمنية مقابل انخفاض عدد الراغبين في الخدمة، هذه الفجوة بين احتياجات المؤسسة العسكرية وحسابات الحكومة الائتلافية تنذر بتداعيات خطيرة على تماسك الجيش، وخصوصاً بعدما باتت انعكاساتها واضحة في الروح المعنوية وسلسلة القيادة، فما يجري اليوم لا يقتصر على خلاف تشريعي، بل يمثل أزمة ثقة تهدد بنية الجيش من الداخل.
مشروع المعافاة… من خطوة تشريعية إلى مصدر غضب داخل الجيش
أثار مشروع القانون الجديد الذي يمنح الحریدیین إعفاءات واسعة من الخدمة الإلزامية موجة رفض داخل الجيش، وخاصة بعد اتّضاح أن نصّه يمنح تسهيلات تتجاوز ما كانت تتوقعه المؤسسات العسكرية، فالقانون يأتي في توقيت حساس يتطلب تعزيز القوة البشرية، بينما اختار نتانیاهو الدفع بهذا المشروع لضمان بقاء أحزابه الحریدية ضمن الائتلاف.
وتكشف التسريبات أن القيادة العسكرية تخشى أن يؤدي تمرير المشروع إلى تآكل مفهوم «الخدمة المشتركة» الذي يُعد أحد ركائز بناء الجيش منذ تأسيس الكيان الصهيوني، كما يشعر الجنود بأن أعباء الدفاع عن الجبهات الأمنية تُلقى عليهم وحدهم، في حين تُمنَح فئات كاملة معافاة دائمة، ويزداد الغضب داخل وحدات الاحتياط التي طُلب منها أداء نحو 60 يوماً من الخدمة خلال العام المقبل رغم غياب حرب مباشرة، هذا التناقض بين الجهد المطلوب من الجنود وبين الامتيازات السياسية للحریدیین حوّل القانون إلى أزمة ثقة حقيقية داخل المؤسسة العسكرية، تتجاوز حدود النقاش التشريعي.
نقص في القوى العاملة وفراغ متصاعد في القيادة العسكرية
تكشف البيانات الرسمية حجم تراجع القوة البشرية داخل الجيش، حيث تشير الإحصاءات إلى حاجة المؤسسة العسكرية لنحو 12 ألف جندي نظامي إضافي، إضافة إلى تقديم نحو 600 من أفراد الكادر الدائم طلبات تقاعد مبكر، الأخطر أن معظم هؤلاء ينتمون لرتب قيادية، ما تسبب في فجوة عميقة في سلسلة القيادة، إذ يغادر 85% من الضباط الخدمة قبل الوصول إلى رتبة نائب عقيد، فيما تراجع عدد الضباط المؤهلين لمنصب "سرهنگ دومی" إلى مستويات غير معهودة، ونتيجة ذلك، اضطر الجيش إلى ترقية ضباط صغار لملء الشواغر، ما يثير مخاوف حول نوعية القرارات العملياتية المقبلة، أما الرواتب، فرغم الزيادة المقررة بنسبة 23%، لم تنجح في إيقاف موجة الاستقالات ولا في تحسين الروح المعنوية، إذ تشير التقارير إلى أن أقل من 40% من الضباط برتبة رائد يرغبون في الاستمرار بالخدمة، كل ذلك يعكس أزمة تراكمية لا تبدو عابرة، بل مرشّحة للتفاقم إذا لم تُعالج من جذورها.
فاتورة الاحتياط… عبء اقتصادي يتضخم سنوياً
على وقع تراجع الكادر الدائم، يتكئ الجيش بشكل متزايد على قوات الاحتياط، وهو خيار تُظهر الأرقام أنه باهظ التكاليف، فقدّرت وزارة المالية أن تفعيل قوات الاحتياط وفق الخطة الجديدة سيحمّل خزينة الكيان الصهيوني نحو 35 مليار شِكِل سنوياً، وتوضّح التقديرات أن تكلفة شهر خدمة واحدة لجندي احتياط ذكَر تبلغ 48 ألف شِکِل، أي ما يقارب ضعف تكلفة جندي نظامي، بينما تصل لدى النساء إلى 32 ألف شِکِل.
وتُحتسب هذه الأرقام على أساس تأثيرات اقتصادية مباشرة وغير مباشرة، تتضمن خسارة الدخل، والتراجع في الخبرة المهنية، وتأثير غياب الجندي على نشاط الأسرة الاقتصادي، فضلاً عن تعطّل الدراسة الجامعية، هذه التكلفة المرتفعة تجعل اعتماد الجيش المفرط على الاحتياط مساراً غير قابل للاستدامة مالياً، وخصوصاً مع توسع المهام الأمنية المتوقعة خلال العام المقبل، وعليه، يتحول جانب من الأزمة إلى صراع بين الحاجة الأمنية العاجلة والقدرة الاقتصادية المحدودة.
تصدع العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية
تتزايد المؤشرات على اتساع فجوة الثقة بين الجيش والقيادة السياسية في الكيان الصهيوني، فالكادر العسكري يشعر بأن المؤسسة الحاكمة توجّه قراراتها وفق المصالح الائتلافية أكثر مما تستند إلى اعتبارات أمنية، تصريحات ضباط كبار، حسب الإعلام العبري، توحي بأن الأزمة بدأت تتحول إلى تهديد استراتيجي يمسّ أسس تماسك الجيش، وخاصة مع تراجع قناعة العسكريين بأن "تضحياتهم" تُقدَّر أو تُقابل بسياسات عادلة.
كما بدأ المجتمع يلمس تآكلاً في مفهوم «تقاسم العبء»، وهو أحد الأعمدة التي اعتمدت عليها الخدمة الإلزامية منذ عقود، وإذا بقيت الحكومة تتعامل مع ملف التجنيد باعتباره ورقة سياسية، فإن الجيش قد يواجه تراجعاً في كفاءته العملياتية وإدارة جبهاته الأمنية، هذا التوتر المتصاعد بين المؤسستين يفتح الباب أمام مرحلة من عدم الاستقرار داخل المنظومة العسكرية، وربما خارجها.
في النهاية، تظهر الصورة العامة أن الجيش في الكيان الصهيوني يقف أمام أزمة مركّبة تجمع بين نقص القوى البشرية، تراجع الروح المعنوية، اتساع فجوة القيادة، وارتفاع تكلفة الاعتماد على الاحتياط، ويأتي مشروع معافاة الحریدیین ليعمّق هذه الفجوة، محوّلاً الأزمة من مشكلة تنظيمية إلى تهديد استراتيجي يطال تماسك المؤسسة العسكرية، ومع استمرار الحكومة في تقديم التوازنات الائتلافية على حاجات الأمن، يبدو أن الأزمة تتجه نحو تعميق أزمة الثقة بين الجيش والسلطة السياسية، الحلول الجزئية كزيادة الرواتب أو تقديم مزايا مالية لا تبدو كافية لاحتواء التدهور.
