الوقت- لقد تغيّر وجه الكيان الصهيوني تغيرًا جذريًا عقب السابع من أكتوبر عام 2023، إذ لم يعد على حاله التي كان عليها من قبل، فليس الأمر مقتصرًا على حرب غزة وحدها، بل إنّ سياسات التصعيد والتحريض التي انتهجها الصهاينة قادت هذا الكيان إلى التورط في ست جبهات مشتعلة، تتوزع بين الضفة الغربية، وغزة، ولبنان، وسوريا، واليمن، وإيران، وقد أفضى هذا التصعيد إلى تشكيل جبهة موحدة تنذر بفناء وجود الصهاينة ذاته، ما جعل معدلات الهجرة من "إسرائيل" تتصاعد بوتيرة لا تهدأ، وكأنّها هروب جماعي من جحيم لا يُطاق.
وفي تقرير حديث لصحيفة “هآرتس” الصهيونية، جاء أنّ شبح الهجرة بات يخيّم على المجتمع الصهيوني بأسره، حيث تتزايد الرغبة في الرحيل بين مختلف الشرائح الاجتماعية بوتيرة غير مسبوقة، ووفقًا لما ورد في التقرير، فإنّ نسبة اليهود الحريديم (الأرثوذكس المتشددين) الذين يفكرون في الهجرة بلغت 19%، بينما ارتفعت النسبة بين العلمانيين إلى 40%.
وتشير الإحصائيات إلى أنّ فئات العلمانيين وأصحاب الدخل المرتفع والمتعلمين تعليمًا عاليًا، فضلًا عن الناخبين ذوي الميول اليسارية الوسطية، هم الأكثر ميلًا إلى مغادرة فلسطين المحتلة، وفي المقابل، فإنّ الفئات الدينية وذوي التعليم المحدود أقل تفكيرًا في الرحيل، وقد أرجعت الصحيفة أسباب هذه الظاهرة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وانسداد الآفاق المستقبلية للأبناء، وتردي الوضع الأمني، وضعف أداء الحكومة في مواجهة هذه الأزمات المتشابكة.
وأعادت الباحثة “آيالا إلياهو” التأكيد على خطورة هذه الظاهرة قائلةً: “منذ عام 2022، شهدنا ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الإسرائيليين الذين قرروا الرحيل عن إسرائيل بلا عودة، إلى جانب انخفاض في أعداد الذين كانوا يفكرون في العودة إلى إسرائيل، ففي عام 2022، انخفض عدد سكان إسرائيل بمقدار ثلاثين ألفًا، وفي عام 2023 بلغ الانخفاض تسعة وخمسين ألفًا، واستمرت هذه الأرقام في التراجع خلال عامي 2024 و2025”.
أما “داني زاكين”، الذي يعمل في إحدى شركات التأمين في تل أبيب، فقد كشف عن أرقام مدهشة حول ظاهرة إلغاء الإقامة الإسرائيلية، حيث أفاد بأنّ طلبات إلغاء الإقامة كانت تتراوح بين ألفين وخمسمئة طلب سنويًا في الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2021، إلا أنّ هذا الرقم ارتفع إلى ثلاثة آلاف وسبعمئة طلب في عام 2022، ثم قفز إلى ستة آلاف وثلاثمائة طلب في عام 2023، ليبلغ أكثر من ثمانية آلاف وأربعمئة طلب في عام 2024.
العودة إلى أوروبا
التقارير الواردة من داخل الكيان المحتل تشير إلى أنّ أغلب اليهود الذين شدّوا رحالهم يومًا إلى فلسطين المحتلة قادمين من أوروبا، باتوا الآن يسلكون طريق العودة إلى مواطنهم الأصلية في أوروبا ودول الغرب الأخرى، فقد ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية، استنادًا إلى بيانات رسمية من تل أبيب، أنّ الهجرة من "إسرائيل" قد تسارعت بفعل عوامل متشابكة، منها الاستقطاب السياسي الحاد، وغلاء المعيشة، والأثر المدمر للحروب في غزة ولبنان، فضلًا عن حالة الذعر الأمني التي تفاقمت إثر هجوم حركة حماس في أكتوبر 2023، وما تلاه من ضربات إيرانية.
ويؤكد التقرير أنّ الوجهة الأكبر لهجرة اليهود تبقى الولايات المتحدة، إلا أنّ دول أوروبا باتت تشهد تزايدًا ملحوظًا في أعدادهم، وقد أشار خبراء في معهد الدراسات اليهودية في لندن إلى أنّ نحو ستمئة وثلاثين ألف يهودي، ممن وُلدوا في "إسرائيل" أو عاشوا فيها لفترات طويلة، قد غادروها خلال هذا العام إلى وجهات مختلفة حول العالم.
وفي تصريح لجوناثان بويد، الخبير في الدراسات اليهودية، أوضح أنّ تدفق اليهود الإسرائيليين إلى أوروبا بات يعزز ظاهرة الهجرة المتزايدة من "إسرائيل"، مشيرًا إلى أنّ بريطانيا وحدها تضم نحو ثلاثة وعشرين ألفًا من مواليد "إسرائيل"، وهو رقم يقارب ضعف العدد قبل عشرين عامًا، ووفقًا للتقرير، فإنّ إجمالي عدد اليهود في بريطانيا يُقدر بنحو ثلاثمئة وثلاثة عشر ألفًا، مع استمرار هذا الاتجاه التصاعدي، كما أورد التقرير أنّ نحو اثني عشر ألفًا من سكان "إسرائيل" وأبنائهم يعيشون الآن في هولندا.
ويقول “أفيسار لِف”، الذي غادر تل أبيب إلى برلين عام 2012، في تصريح لصحيفة “الغارديان”: “حتى عام مضى كنت أعتبر نفسي إسرائيليًا، لكنني الآن أشعر أكثر بهويتي اليهودية، لا الإسرائيلية”.
إنّ الغالبية العظمى من المهاجرين الإسرائيليين إلى أوروبا هم من الشباب المتعلمين، وأصحاب الأسر الصغيرة، الذين وجدوا في المنازل الجديدة حياةً أكثر استقرارًا وطمأنينةً.
التداعيات السلبية للهجرة العكسية
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أنّ معدل النمو السكاني في "إسرائيل" قد تراجع من 1.6% إلى 1.1%، وهو انخفاض يُنذر بالخطر، إذ يعزى هذا التراجع إلى تصاعد موجة الهجرة، ما أثار قلقًا متزايدًا في أوساط الاحتلال، وقد نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” مقالًا افتتاحيًا بعنوان “ليس مستغربًا أن يغادر الناس إسرائيل”، عبّرت فيه عن القلق البالغ إزاء هذه الظاهرة، بينما حذّرت وسائل إعلام أخرى من “نزيف العقول” الذي يهدد الكيان.
ويرى البروفيسور “آرون سيشانوفر”، أحد أبرز العلماء اليهود، أنّ سياسات حكومة نتنياهو والحروب وانعدام الأمن هي السبب الرئيسي وراء هذه الهجرة، وفي حديثه مع صحيفة “الغارديان”، قال: “إنّ الذين يغادرون إسرائيل إنما يسعون للعيش في بلد حر، لا في مكان تحكمه حكومة استبدادية تستولي على السلطة بالقوة”.
خروج رأس المال
أما صحيفة “كالكاليست” الاقتصادية، فقد أوردت في تقرير حديث صورةً قاتمةً عن موجة الهجرة المتزايدة، مستندةً إلى دراسة أجرتها جامعة تل أبيب، حيث وصفت هذه الظاهرة بأنها باتت تأخذ طابعًا “هيكليًا”، مع تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة، وأشارت الدراسة إلى أنّ موجة الهجرة الحالية تمثل “تحولًا نوعيًا”، إذ إنّ غالبية المهاجرين هم من أصحاب الدخل المرتفع، والشباب، والمتخصصين في مجالات حيوية مثل الطب، والهندسة، والتكنولوجيا المتقدمة، وهي الفئات التي تمثّل عماد سوق العمل الإسرائيلي.
وقدرت الدراسة أنّ خروج هذه الفئات قد تسبب في خسائر مالية بلغت مليارًا ونصف المليار شيكل (395 مليون دولار) في الإيرادات الضريبية السنوية، وهي مبالغ كانت تضاف إلى خزينة الكيان، ولم تقتصر الخسائر على ضرائب الدخل، بل شملت ضرائب القيمة المضافة، وضرائب الشركات، وغيرها من مصادر الإيرادات التي فقدها الاحتلال.
وفي خلاصة التقرير، حذّرت الصحيفة من أنّ هذه الظاهرة تمثل “خطرًا استراتيجيًا داهمًا” على مستقبل "إسرائيل"، مؤكدةً أنّ خروج الأطباء والمهندسين والباحثين قد يخلق دائرة انهيار يصعب تداركها.
تعزيز نفوذ المتطرفين
وفي ظلّ رحيل الطبقة الوسطى والمجتمع الأكاديمي، يُرجح أنّ هذه الهجرة ستفضي إلى تعزيز نفوذ القوى الأكثر تطرفًا في الانتخابات، ما يعني أنّ السنوات المقبلة قد تشهد صعودًا متزايدًا للمتطرفين في حكومات تل أبيب.
أزمة نقص الجنود
ويواجه الجيش الإسرائيلي أزمة نقص حادة في أعداد الجنود، حيث يعاني من عجز يبلغ اثني عشر ألف جندي، بينهم تسعة آلاف في الوحدات القتالية وثلاثة آلاف في وحدات الدعم.
وتُعد أزمة الخدمة العسكرية بين الحريديم من أبرز التحديات التي تواجه "إسرائيل" منذ العقد الثاني من القرن الحالي، إذ إنّ رفض الحريديم أداء الخدمة العسكرية، تمسكًا بنمط حياتهم الديني، قد عمّق هذه الأزمة، ومع تصاعد الهجرة بين الشباب العلمانيين، بات الجيش يواجه نقصًا متزايدًا في أعداد الجنود، ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا.
تفاقمت الأوضاع بشكل خاص بعد انتهاء العمل بقانون تمديد إعفاء الخدمة العسكرية في يونيو عام 2023، إذ مع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر وحاجة الجيش الإسرائيلي الملحة إلى قوات جديدة، رفضت حكومة الاحتلال الاستمرار في منح الإعفاءات الموسعة، ومع ذلك، فإنّ موجة هجرة الطبقة الوسطى والشباب من "إسرائيل" ستؤدي إلى تفاقم أزمة نقص الجنود في الجيش، حيث إنّ الجزء الأكبر من المهاجرين الحاليين من "إسرائيل" هم من الشباب الذين يُفترض أن يلتحقوا بالخدمة العسكرية، في حين يبقى الحريديم داخل "إسرائيل" رافضين أداء الخدمة العسكرية بشكل قاطع.
