الوقت- في خطوة جديدة تكشف عمق الانحدار الإنساني الذي وصل إليه الاحتلال، أعلن وزير الحرب في الكيان الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن قرار يقضي بمنع ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ومنع نشر أسمائهم أو أي تفاصيل تتعلق بأوضاعهم، القرار، الذي وُصف بأنه "إجراء أمني"، أثار موجة استنكار واسعة من الفصائل الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية، التي اعتبرته جريمة إضافية تُضاف إلى سجل الكيان الحافل بانتهاكات القانون الدولي الإنساني.
حماس: انتهاك صارخ للحقوق الأساسية للأسرى
في بيان رسمي، اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية حماس هذا القرار "نقضًا صارخًا للحقوق الأساسية للأسرى الفلسطينيين" و"حلقة جديدة في سلسلة الجرائم الممنهجة التي يتعرض لها الأسرى في سجون الاحتلال"، مشيرة إلى أن هذه الانتهاكات تشمل القتل المتعمد، والتعذيب، والتجويع، والإهمال الطبي، والتعتيم الإعلامي.
وجاء في بيان الحركة أن "منع الصليب الأحمر من أداء دوره الإنساني يعكس نية مبيتة لإخفاء الجرائم التي تُرتكب يوميًا بحق مئات الأسرى، بينهم نساء وأطفال ومرضى يعيشون ظروفًا قاسية لا تليق بالبشر".
كما دعت الحركة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية، والضغط على الكيان الإسرائيلي لإلغاء القرار فورًا، وفتح السجون أمام لجان المراقبة الدولية، محذّرة من أن "صمت المؤسسات الدولية على هذه الجريمة سيُفسَّر كضوء أخضر لاستمرار الاحتلال في سياساته القمعية".
سياسة منهجية لإخفاء الجرائم داخل السجون
قرار وزير الحرب ليس حادثًا معزولًا، بل يأتي في سياق سياسة طويلة يتبعها الكيان الإسرائيلي لإخفاء ما يجري خلف جدران السجون، حيث تُمارس أبشع أنواع التعذيب والانتهاك بحق الأسرى الفلسطينيين، منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، تصاعدت التقارير الحقوقية التي توثق جرائم التعذيب الجماعي، والقتل تحت التعذيب، وحرمان الأسرى من الغذاء والعلاج، في سجون مثل سدي تيمان وعوفر والنقب.
تقارير صادرة عن منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية أكدت أن الكيان الإسرائيلي ينتهج سياسة إذلال وتجويع وتعذيب متعمد بحق الأسرى الفلسطينيين، في محاولة للانتقام الجماعي من الشعب الفلسطيني، كما أشارت شهادات جنود احتياط إسرائيليين إلى أن بعض السجون تحولت إلى "مراكز تعذيب مغلقة" تُرتكب فيها جرائم تصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
منع الصليب الأحمر من الزيارة يعني عمليًا إغلاق آخر نافذة رقابية دولية على هذه الانتهاكات، ومنح إدارة السجون وجيش الاحتلال حرية مطلقة في ممارسة القمع دون خشية من المحاسبة أو الفضح الإعلامي.
تضييق ممنهج منذ الـ 7 من أكتوبر
منذ عملية "طوفان الأقصى"، شن الكيان الإسرائيلي حملة قمع غير مسبوقة في الضفة الغربية والقدس، طالت أكثر من 9 آلاف معتقل، بينهم أكثر من ألف طفل و700 امرأة، وفق إحصاءات مؤسسات الأسرى الفلسطينية.
وخلال العام المنصرم، وثّقت مؤسسات حقوقية عشرات حالات القتل داخل السجون نتيجة التعذيب والحرمان من العلاج، كما فرض الاحتلال قيودًا قاسية على الأسرى تمثلت في:
- تقليص الوجبات الغذائية إلى حد التجويع.
- حرمان الأسرى من الملابس النظيفة والاستحمام.
- مصادرة الممتلكات الشخصية.
- منع الزيارات العائلية والمحامين.
- نقل الأسرى بشكل متكرر إلى أماكن احتجاز سرية.
وحسب مصادر فلسطينية، فإن القيادة الإسرائيلية تعتبر الأسرى "أوراق ضغط" تستخدمها في المفاوضات السياسية أو لتبرير انتهاكاتها في غزة، قرار كاتس الأخير يندرج ضمن هذا الإطار، إذ يسعى إلى فرض تعتيم كامل على مصير هؤلاء الأسرى ومنع أي مراقبة خارجية قد تكشف الجرائم المروعة التي تُرتكب بحقهم.
موقف القانون الدولي: انتهاك واضح لاتفاقيات جنيف
حسب اتفاقية جنيف الثالثة والرابعة، يُلزم القانون الدولي الاحتلال بالسماح بزيارة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للأسرى والمعتقلين، وضمان حقهم في التواصل مع ذويهم وتلقي الرعاية الصحية.
المادة (126) من اتفاقية جنيف الثالثة تنص بوضوح على أن "يُسمح لممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة أماكن اعتقال أسرى الحرب في جميع الأوقات، دون قيود، وبالقدر اللازم لتقييم أوضاعهم".
وبناءً على ذلك، فإن منع الكيان الإسرائيلي لهذه الزيارات يمثل انتهاكًا صريحًا للاتفاقية، ويشكل جريمة دولية تستوجب المساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية.
لكن رغم وضوح النصوص القانونية، يستمر الصمت الدولي، وخصوصًا من جانب الدول الغربية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، ما يكرّس ازدواجية المعايير التي باتت سمة الموقف الغربي من القضية الفلسطينية.
أهداف القرار: طمس الأدلة والتغطية على الجرائم
يرى محللون فلسطينيون أن الهدف الحقيقي من هذا القرار ليس "أمن الكيان" كما يدّعي كاتس، بل هو التغطية على الجرائم الممنهجة داخل السجون، وخصوصًا بعد تسريبات وشهادات كشفت عن ممارسات وحشية بحق الأسرى منذ اندلاع الحرب على غزة.
ففي أكتوبر الماضي، نشر تحقيق استقصائي لصحيفة واشنطن بوست صورًا ومقاطع فيديو تُظهر جنود الاحتلال وهم يعذبون الأسرى الفلسطينيين، ويجبرونهم على الجوع والتعرية، في مشاهد صادمة وصفتها منظمات دولية بأنها "تجسيد للانحطاط الأخلاقي للكيان الإسرائيلي".
هذه الصور دفعت الرأي العام العالمي إلى طرح تساؤلات حول مصير آلاف المعتقلين الذين اختفوا قسريًا منذ بداية الحرب، في ظل تعمد الاحتلال التكتّم على أعدادهم ومواقع احتجازهم، لذلك فإن قرار كاتس يمثل محاولة واضحة لإغلاق الباب أمام أي جهة يمكن أن توثق هذه الجرائم أو تحاسب مرتكبيها.
الصليب الأحمر في موقف حرج
من جهتها، عبّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيانات سابقة عن "قلقها العميق" إزاء أوضاع الأسرى الفلسطينيين، لكنها لم تصدر بعد موقفًا قويًا تجاه القرار الأخير.
ويخشى مراقبون من أن استمرار تردد اللجنة في اتخاذ موقف حازم سيضعف مصداقيتها كمؤسسة إنسانية محايدة، وسيمنح الاحتلال غطاءً إضافيًا لمواصلة جرائمه.
كما أن فشل الصليب الأحمر في الضغط من أجل استعادة صلاحياته داخل السجون الإسرائيلية سيُعد سابقة خطيرة، لأن الكيان سيستخدمها نموذجًا لتبرير منع أي رقابة دولية مستقبلية في مناطق النزاع الأخرى.
صمت دولي وتواطؤ غربي
في الوقت الذي تتصاعد فيه الانتهاكات ضد الأسرى، تغيب المواقف الرسمية الغربية، فلا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي أدانا القرار الإسرائيلي، رغم أنه يتناقض مع التزاماتهم المعلنة تجاه القانون الدولي.
ويشير محللون إلى أن هذا الصمت يعكس تواطؤًا سياسيًا وأخلاقيًا مع الكيان الإسرائيلي، وخاصة في ظل الدعم العسكري والمالي المفتوح الذي توفره واشنطن وتبرره باعتبارات "الدفاع عن النفس".
من جهة أخرى، اكتفت الأمم المتحدة بتصريحات خجولة تدعو إلى "احترام حقوق الأسرى"، دون أي تحرك ملموس، في المقابل، واصلت منظمات فلسطينية ودولية مطالبتها بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمتابعة أوضاع الأسرى، وإلزام الاحتلال باحترام التزاماته بموجب القانون الدولي.
رسالة المقاومة: الأسرى خط أحمر
تؤكد فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، أن ملف الأسرى سيبقى في صدارة أولوياتها، وأنها لن تسمح للكيان الإسرائيلي بالتلاعب بمصيرهم أو استخدامهم كورقة ضغط.
وأكدت حماس في بيانها أن الأسرى الفلسطينيين "رمز للصمود والنضال"، وأن استمرار الانتهاكات بحقهم "لن يمر دون رد"، محملة الاحتلال كامل المسؤولية عن حياتهم وسلامتهم.
كما دعت المقاومة الشعب الفلسطيني إلى تصعيد التضامن الشعبي مع الأسرى، في الوقت الذي تتصاعد فيه الحملات الميدانية في الضفة الغربية للمطالبة بالإفراج عنهم.
سياسة الإفلات من العقاب إلى أين؟
قرار منع الصليب الأحمر من زيارة الأسرى الفلسطينيين يفتح فصلًا جديدًا في سياسة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها الكيان الإسرائيلي منذ عقود، إنه ليس مجرد قرار إداري، بل رسالة تحدٍّ للمجتمع الدولي، ومؤشر على نية الاحتلال مواصلة القمع دون أي رقابة أو محاسبة.
في ظل هذا الواقع، يبدو أن معركة الأسرى الفلسطينيين لم تعد تقتصر على جدران السجون، بل أصبحت معركة إنسانية وأخلاقية عالمية، تختبر صدقية المنظومة الدولية التي طالما تغنّت بحقوق الإنسان.
إن صمت العالم على هذه الجريمة الجديدة، بعد كل ما كشفت عنه التقارير من تعذيب وتجويع وقتل وإهمال طبي متعمّد، يعني أن العدالة الدولية نفسها باتت رهينة للنفوذ السياسي، وأن حقوق الفلسطينيين تُستباح بلا حساب.
لكن رغم كل ذلك، يبقى الأسرى الفلسطينيون عنوانًا للثبات في وجه آلة القمع الإسرائيلية، ويظل صمودهم شاهدًا على فشل الكيان في كسر إرادة شعبٍ اختار الحرية رغم السلاسل.
