الوقت- مع نهاية حرب الـ12 يوماً، بدأت مؤشرات أزمة وقود غير مسبوقة تتصاعد في الداخل الإسرائيلي، إثر الهجوم الصاروخي الإيراني واسع النطاق الذي استهدف مصفاة حيفا الاستراتيجية، وأصاب بنيتها الأساسية بأضرار جسيمة، وبينما تحاول حكومة الاحتلال التقليل من وقع الكارثة والتعتيم على أبعادها الحقيقية، بدأت تداعيات الأزمة تضرب مفاصل الاقتصاد والطاقة في دولة الاحتلال، كاشفة عن هشاشة غير مسبوقة في منظومة الأمن الطاقوي الإسرائيلي والمخاطر الاستراتيجية التي باتت تهدد الأمن القومي الإسرائيلي من بوابة الطاقة
حين أصاب الصاروخ قلب المنظومة الطاقوية
في الـ 13 من حزيران/يونيو 2025، وجهت إيران رشقة صاروخية دقيقة استهدفت منشآت استراتيجية في الداخل الإسرائيلي، في مقدمتها مصفاة خليج حيفا، أكبر منشأة لتكرير النفط في "إسرائيل"، والتي تزود ثلثي احتياجات الدولة من الوقود، حسب تصريحات شركة بازان المشغلة، تعرضت وحدة توليد الطاقة الرئيسية في المصفاة لأضرار فادحة، ما أدى إلى توقف شبه تام في عمليات التكرير.
هذه الضربة، التي أسفرت عن مقتل ثلاثة موظفين وإغلاق كامل للمنشأة، تسببت في شلل جزئي لسوق الطاقة الإسرائيلية، ومع خروج مصفاة حيفا من الخدمة، انخفضت إمدادات البنزين والديزل وغاز البترول المسال بنسبة تفوق 60%، وفق تصريحات الرئيس التنفيذي لبازان عساف ألماغور.
مصفاة أشدود عاجزة واقتصاد الاحتلال في مهب العجز
رغم محاولات مصفاة أشدود - ثاني أكبر مصفاة في البلاد - تغطية جزء من العجز، إلا أنها سرعان ما أعلنت عن عطل فني مفاجئ أعاق قدرتها على إنتاج وقود الديزل، وزاد الطين بلّة أن العطل تزامن مع انتهاء فترة صيانة كانت قائمة خلال الحرب مع إيران، ما جعل طاقتها الإنتاجية محدودة للغاية.
وجاء في بيان صادر عن الشركة إلى بورصة تل أبيب أنها لن تكون قادرة على تزويد عملائها بالكميات الكاملة من وقود الديزل اعتبارًا من منتصف يوليو، الأمر الذي دفع شركة الكهرباء الإسرائيلية إلى ضخ كميات احتياطية من وقود الديزل إلى المصفاة، في محاولة يائسة لسد الفجوة.
محاولات للتعتيم
في خضم هذه التطورات، اختارت وزارة الطاقة الإسرائيلية أسلوب الإنكار والتحايل، إذ امتنعت عن تفعيل مخزونات الطوارئ الاستراتيجية، رغم وضوح مؤشرات النقص في المحروقات، ووفق موقع "كالكاليست" العبري، فإن الوزارة لجأت إلى استخدام خزانات مملوكة لشركة الكهرباء وغيرها من الجهات، في محاولة لإخفاء العجز عن الرأي العام.
وأكد مصدر في قطاع الطاقة للموقع نفسه أن الوزارة لم تكن مستعدة لسيناريو الحرب، رغم التحذيرات المتكررة بشأن هشاشة منشآت التكرير، وأن فتح الاحتياطيات الاستراتيجية كان سيتسبب في فضيحة سياسية.
البديل الذي لجأت إليه الوزارة تمثل في استيراد محدود ومكلف لبعض أنواع الوقود، مثل البنزين وغاز الطهي، وهو حل لا يمكنه سد حاجة السوق بالكامل، لا من حيث الكمية ولا من حيث التوقيت، كما أن تكاليفه المرتفعة ستنعكس قريبًا على الأسعار في السوق.
ارتباك في توزيع الوقود وحصص يومية للشركات
قبل الأزمة، كانت شركات الوقود تحصل على مخصصاتها من المصافي بشكل شهري، لكن بعد توقف مصفاة حيفا وتعطل أشدود، اضطرت الحكومة إلى إعادة هيكلة منظومة التوزيع بالكامل، وفرض نظام الحصص اليومية، الذي يحدد لكل شركة ما يمكنها استلامه من البنزين أو الديزل في اليوم التالي.
هذا الإجراء المؤقت يدل على تدخل حكومي مركزي غير مسبوق في سوق الطاقة، وهو مؤشر على درجة الخطر، حيث لا تستطيع الشركات تلبية طلبات المستهلكين كاملة، ما يُنذر بحدوث اختناقات في التوزيع، وخصوصًا في المناطق البعيدة عن الموانئ أو مراكز التخزين.
تكلفة اقتصادية باهظة وآثار ممتدة
حسب شركة بازان، تُقدّر الخسائر الأولية جراء الضربة الإيرانية بين 150 و200 مليون دولار، وقد تسلمت الشركة دفعة أولى قدرها 160 مليون شيكل من صندوق تعويضات حكومي، للبدء في أعمال الترميم، لكن الخبراء يتوقعون أن العودة إلى التشغيل الكامل ستتطلب شهورًا طويلة، إن لم تكن سنوات.
تداعيات هذه الخسائر لا تقتصر على الشركة، بل تشمل قطاعات اقتصادية واسعة، من الزراعة إلى النقل والصناعة، فمن المتوقع أن ترتفع أسعار المنتجات الغذائية والخدمات اللوجستية بفعل ارتفاع تكاليف النقل، فضلاً عن اضطراب عمليات الاستيراد والتصدير.
أزمة ثقة تضع حكومة الاحتلال في مأزق
رغم محاولات التعتيم الرسمية، بدأت مؤشرات الأزمة تظهر للعيان، فقد اشتكى سائقو شاحنات من صعوبة الحصول على الديزل في محطات الوقود، بينما نشرت صحف عبرية تقارير عن طوابير طويلة أمام محطات البنزين، وتضخّم في الأسعار بنسبة تجاوزت 18% منذ منتصف يونيو.
ومن جهة أخرى، بدأ الشارع الإسرائيلي يطرح تساؤلات حرجة حول مدى استعداد البنية التحتية للطاقة للحروب، ومدى فاعلية وزارة الطاقة في إدارة الأزمة، وما إذا كانت الحكومة قد فشلت في حماية المرافق الحيوية، مثل مصفاة حيفا، رغم أنها هدف معروف ومكشوف مسبقًا.
التداعيات الاستراتيجية وهشاشة الأمن القومي
أظهرت هذه الأزمة أن أمن الطاقة الإسرائيلي أكثر هشاشة مما كان يُعتقد، وأن ضربة واحدة مركّزة على منشأة حيوية يمكن أن تشلّ الاقتصاد، وهذا يعيد فتح النقاش حول اعتماد "إسرائيل" الكبير على التكرير المحلي، وخصوصًا في ظل مساعيها لإغلاق مصفاة بازان نهاية العقد، كما جاء في دراسات وزارة الطاقة.
إغلاق المصفاة، الذي يُفترض أن يتم لأسباب بيئية، سيُحوّل "إسرائيل" إلى دولة تعتمد على الاستيراد بنسبة تفوق 80% من المشتقات البترولية، ما يجعلها أكثر عرضة للصدمات، سواء بسبب النزاعات، أو اضطرابات سلاسل التوريد، أو حتى القرارات الجيوسياسية للدول المصدّرة.
ردود فعل محلية ودولية
على الصعيد المحلي، برزت انتقادات حادة من قبل بلديات شمال "إسرائيل"، ولا سيما بلدية حيفا، التي طالبت بنقل مصافي النفط إلى مناطق غير مأهولة، ووصفت منح الإعفاءات البيئية لبازان بأنه "استهتار بصحة السكان".
أما على الصعيد الدولي، فلم تُصدر الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أي مواقف علنية بشأن الهجوم الإيراني على البنية التحتية للطاقة في "إسرائيل"، ما فُسّر على أنه تقبّل ضمني لفكرة الردع الإيراني من بوابة الطاقة، وهو تحول استراتيجي لا يمكن تجاهله في معادلة الصراع.
بين الفشل والعجز
في النهاية، تبدو أزمة الوقود في "إسرائيل" اليوم نتيجة طبيعية لفشل مركّب: فشل في التقدير، وفشل في الحماية، وفشل في إدارة الأزمة، لقد كشفت حرب الأيام الـ12 مع إيران مدى هشاشة بنية الطاقة، ومحدودية قدرة الدولة على التعافي السريع، وتضارب المصالح بين الأمن القومي والربح الاقتصادي.
وما لم تُراجع حكومة الاحتلال استراتيجيتها في هذا القطاع، فإن المستقبل القريب سوف يشهد أزمات أعمق، ربما تتجاوز الوقود إلى الكهرباء، والماء، وحتى الأمن الغذائي، فحين تُصاب شرايين الطاقة بالشلل، لا تعود أي قوة قادرة على الاستمرار… لا جيش، ولا اقتصاد، ولا حتى وهم "الدولة القوية".