الوقت- في مشهد سريالي يعكس حجم البؤس الفلسطيني والإجرام الإسرائيلي، لم تكتفِ "إسرائيل" بقتل المدنيين، وتدمير المنازل، وتجويع السكان، بل اتجهت إلى "سرقة الحمير" من قطاع غزة، في سابقة لم يعرفها التاريخ الحديث، لتُحوَّل الحيوانات إلى "لاجئين" في أوروبا، تحت ذريعة "إنقاذهم من المعاناة"، ورغم محاولات التجميل التي أرفقتها الجمعيات الإسرائيلية والأوروبية بهذه الخطوة، إلا أن حقيقتها تتكشف بكل وضوح: تجريد الفلسطيني من كل ما يملكه، ولو كان حمارًا يُستخدم في جر العربة أو نقل الجريح.
من هنا سنعمل على تحليل خلفيات هذه الخطوة غير المسبوقة، واستجلاء أبعادها الرمزية والعملية، وتفسيرها في سياق الاحتلال الذي يطمع بكل شيء، من الأرض إلى الحيوان، حتى لا يبقى لأهل غزة ما يستندون إليه في صمودهم الأسطوري.
سرقة الحمير… من نكتة سوداء إلى حقيقة فاقعة
كشفت قناة "كان" الإسرائيلية عن قيام جيش الاحتلال بنقل مئات الحمير من قطاع غزة إلى الداخل الإسرائيلي، ثم إلى فرنسا وبلجيكا، بالتنسيق مع جمعية تُدعى "لنبدأ من جديد"، بحجّة حمايتها من “الصدمة النفسية” و”العبودية”، على حد وصفهم، وهي خطوة أثارت موجة سخرية وغضباً شعبياً واسعاً، حيث اعتُبرت مثالًا على النفاق الأخلاقي الفاضح، إذ يقتل الاحتلال الأطفال ويبرر لنفسه تهريب الحمير بدعوى الرحمة.
ما بدا في الوهلة الأولى مشهدًا من فيلم عبثي، سرعان ما تحول إلى مادة تحليلية عميقة عن منطق الاحتلال القائم على السيطرة الشاملة، حتى على وسائل النقل البدائية، التي شكلت شريان حياة لآلاف العائلات في غزة بعد تدمير البنية التحتية ومنع دخول الوقود.
لماذا الحمير؟ الخلفيات والدوافع الحقيقية
1. شل الحياة اليومية في غزة
في ظل غياب المركبات والوقود، وبعد تدمير معظم الطرق والمرافق الحيوية، باتت الحمير في غزة أداة لا غنى عنها للتنقل، ونقل الغذاء والدواء، بل حتى الجرحى والشهداء، لذلك، فإن تهريبها وسرقتها لم يكن محض “مبادرة بيطرية”، بل قراراً عسكرياً مدروساً لتعطيل قدرة السكان على التنقل، وإطالة أمد الحصار الخانق.
2. إجهاض أي قدرة على إعادة الإعمار
صرحت رئيسة الجمعية الإسرائيلية بشكل واضح: "لن نسمح بعودة الحمير إلى غزة، بل سنخرج ما تبقى منها حتى لا تُستخدم في إعادة الإعمار"، وهذا التصريح بحد ذاته يكشف النوايا الحقيقية: منع الفلسطينيين من النهوض حتى بأدواتهم البدائية، ومصادرة كل ما يمكن أن يساعدهم على ترميم حياتهم المدمرة.
3. رسائل رمزية متعددة
يريد الاحتلال إيصال رسالة للعالم وللفلسطينيين مفادها: لا تملكوا شيئًا، ولن نسمح لكم بامتلاك حتى حمار، هي سياسة "القتل الكامل للحياة"، تمتد من البشر إلى الجماد والحيوان، وتُرادف هذه الخطوة تمامًا ممارسات الاحتلال السابقة في قنص الخيول، وقتل الأغنام، ونسف خزانات المياه، وقصف مزارع الدجاج.
الأثر على أهل غزة… بين الصدمة والتجويع
الحمير لم تكن مجرد وسيلة نقل في قطاع غزة، بل كانت جزءًا من دورة الحياة اليومية، في مشهدٍ يعكس العلاقة العاطفية والعملية مع هذه الحيوانات، نظّم سكان غزة مؤخرًا احتفالات رمزية لتكريم الحمير التي واجهت الحرب معهم، ونقلت الأحياء والموتى في أزقة الدمار، لذلك فإن سرقتها أحدثت صدمة جديدة لدى السكان، الذين باتوا يرون في كل تفصيل من حياتهم هدفًا مباحًا للسرقة أو التدمير.
ولأن الاحتلال لا يكتفي بالقتل، بل يستهدف حتى الرمق الأخير من حياة الفلسطيني، جاءت هذه الخطوة لتقضي على وسيلة النقل الأخيرة، ما يعني زيادة الاعتماد على السير على الأقدام لمسافات طويلة، وصعوبة نقل الجرحى أو المواد الغذائية، وتعطيل العمل في كثير من المهن البسيطة التي تعتمد على الحمير.
"الإنسانية الانتقائية"… حين يصبح الحمار لاجئًا والغزي مستباحًا
استقبال الحمير في فرنسا بطائرات خاصة، وسط تغطية إعلامية، ومراسم احتفال، وحديث عن "ضحايا الصدمة"، في وقت يُترك فيه آلاف الأطفال في غزة يواجهون الموت تحت الأنقاض والجوع، يكشف عن الوجه الحقيقي لـ"الإنسانية الغربية"، إنها إنسانية انتقائية، تخضع للعنصرية والاصطفاف السياسي، تمنح الحمار حق اللجوء وترفض منح الفلسطيني حق الحياة.
لقد اعتبر كثيرون في غزة أن ما حدث هو إعادة تدوير للخطاب الاستعماري القديم، الذي ينزع عن الإنسان المستعمَر صفة الآدمية، ويحوّل الحيوان إلى كائن أسمى يستحق الإنقاذ، فبينما يُعامل الغزيون كأهداف عسكرية أو أرقام في تقارير المنظمات، تُنقل الحمير بالعطف والعناية إلى ملاجئ أوروبية.
خامسًا: الطمع الصهيوني الذي لا حدود له
تُختزل هذه الحادثة المأساوية ـ المضحكة في آنٍ معًا ـ في جوهر المشروع الصهيوني: نهب كل ما يمكن نهبه، سواء كان أرضًا، أو شجرة زيتون، أو مياهًا جوفية، أو حتى حيوانًا يعمل في الحقول، إنه احتلال لا يقتصر على الجغرافيا، بل يمدّ يده إلى التاريخ والهوية والإنسان والحيوان.
حين تُسرق الحمير من غزة، ويُمنع الناس من استخدامها في إعادة إعمار منازلهم، فإننا أمام استعمار كامل، يحاول محو كل أدوات البقاء، وهذا يتّسق مع سياسات "التجويع" التي استخدمها الاحتلال لتقويض صمود السكان، ومنع أي شكل من أشكال التعافي المجتمعي.
ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي
لم تمرّ هذه الجريمة بصمت، فقد شهدت مواقع التواصل موجة من التعليقات اللاذعة والساخرة، ربطت بين الطابع التاريخي للاحتلال القائم على النهب، وهذه الحادثة الغريبة، من بين التعليقات:
"فرنسا منحت اللجوء لحمير غزة، بينما الفلسطينيون يُدفنون بلا كفن".
"إسرائيل: الدولة الوحيدة في العالم التي تسرق حتى الحمير!"
"في غزة… الحمار يُنقل بطائرة، بينما الجريح يُحمل على الأكتاف".
وكتب أحد النشطاء: "هذا هو المعنى الحقيقي للإجرام… حتى الحمير لم تسلم، يريدون قتل الحياة كي ييأس الإنسان".
أكثر من مجرد حادثة… إنها اختزال لعقيدة استعمارية
قضية سرقة الحمير من غزة ليست مجرد طرافة سوداء في سجل الاحتلال، بل نموذج مصغر للسياسة الإسرائيلية التي تقوم على الإفقار الشامل، والنهب المستدام، ومحاولة تجريد الفلسطيني من كل عناصر صموده، هي فصل جديد من فصول الإبادة المركبة، التي لا تكتفي بالقصف، بل تلاحق الإنسان في لقمة عيشه، وفي وسيلة نقله، وحتى في علاقة بسيطة تربطه بحيوانٍ رافقه في أيام الموت.
في المقابل، تكشف هذه الحادثة مدى تزييف الأخلاق في الخطاب الغربي، الذي بات يتعامل مع الفلسطيني ككائن زائد عن الحاجة، لا يستحق الإنقاذ، في حين يُحتفى بحمار نُقل إلى مزرعة في باريس.
قد يكون الحمار حيوانًا صبورًا، لكنه بات اليوم رمزًا لصبر غزة، ولصوصيته صارت عنوانًا إضافيًا على لائحة جرائم الاحتلال التي لا تتوقف عند حدود الجغرافيا، بل تلاحق كل ما فيه نبض حياة.