الوقت- مرّ أكثر من 600 يوم على أطول حرب خاضها الكيان الصهيوني منذ بداية احتلاله للأراضي الفلسطينية قبل 77 عامًا، ويعترف الصهاينة بأنهم لا يرون نهاية واضحة لهذه الحرب، وأنهم منخرطون في حرب أبدية، وبينما تستمر جرائم الصهاينة الوحشية ضد المدنيين في غزة، وتتسبب في كوارث إنسانية غير مسبوقة، تكبد المحتلون أنفسهم خسائر فادحة، ما يعكس عمق الفشل الاستراتيجي والسياسي للكيان.
هزائم صهيونية غير مسبوقة ومتعددة في حرب غزة
دفع الفلسطينيون، وخاصة أهالي غزة، ثمنًا بشريًا واقتصاديًا باهظًا خلال الحرب الحالية، لكن الخسائر التي تكبدها الكيان الصهيوني محليًا وعالميًا لا تقل فداحة ولا تُعوّض، فجيش الكيان الصهيوني، الذي كان، بدعم لا محدود من الولايات المتحدة والغرب، يعتبر نفسه من أقوى الترسانات العسكرية في العالم، ويعتقد أنه أفضل جيش في المنطقة، فشل في تحقيق نصر عسكري حاسم في منطقة صغيرة تُدعى غزة بعد أكثر من 600 يوم.
دُمّرت أو أُصيبت مئات الدبابات والمركبات العسكرية التابعة للكيان الصهيوني، بما في ذلك دبابات ميركافا المتطورة، في كمائن نفذها مقاتلون فلسطينيون باستخدام معدات وتجهيزات محدودة للغاية، كما تكبد الجنود الصهاينة خسائر غير مسبوقة أحرجت قيادة الجيش الصهيوني بشدة، وأثارت موجة من الشكوك حول فعالية الاستراتيجية الأمنية للكيان.
كان الاقتصاد الإسرائيلي من أوائل القطاعات التي تضررت بشدة خلال حرب غزة، حيث أغلقت آلاف الشركات الإسرائيلية أبوابها، وانهار قطاع السياحة، وشهدت سوق الأسهم تقلبات حادة، وخفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني التصنيف الائتماني لـ"إسرائيل" بشكل حاد لأول مرة منذ عقود، محذرة من هشاشة الوضع المالي للكيان نتيجة التآكل العسكري المطول والضغوط السياسية الداخلية، كما تفاقمت الأزمة النفسية والاجتماعية الداخلية للصهاينة، حيث يعيش ملايين المستوطنين في حالة تأهب واستعداد دائمين، في انتظار انطلاق صفارات الإنذار للفرار إلى الملاجئ.
عالميًا، تضررت صورة الكيان الصهيوني أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من الدعاية غير المسبوقة التي شنتها الولايات المتحدة والغرب ضده، وتعترف الأوساط العبرية بأن "إسرائيل" أصبحت الآن مكروهة تمامًا من العالم، بعد الكشف عن حقيقة جرائم الاحتلال الوحشية ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، اضطرت حتى الحكومات الغربية إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة ضد "إسرائيل" تحت ضغط الرأي العام العالمي، بالتزامن مع الدعوات العديدة من المؤسسات الدولية لوقف إرسال الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، تزايدت حملات مقاطعة "إسرائيل" وتوسيع نطاق المقاطعة الثقافية والأكاديمية لها بشكل حاد في الغرب، وبلغت هذه الضغوط ذروتها عندما اضطرت المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء كيان الاحتلال، ويواف غالانت، وزير الحرب السابق للكيان، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وبعد ما يقرب من عامين من الهجمات العنيفة والمكثفة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة، بدعم كامل من الولايات المتحدة، لم ينجح الصهاينة في تحقيق أي من أهدافهم المعلنة، ولا تزال المقاومة نشطة وتواصل عملياتها الفتاكة ضد الجيش الصهيوني على جبهات مختلفة، بالإضافة إلى ذلك، لا يزال العشرات من الأسرى الصهاينة في غزة، وليس هناك سبيل آخر سوى وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لتحريرهم، في واقع الأمر، دخل الكيان الصهيوني حرب غزة بشعار "تدمير حماس" و"إحياء الردع الإسرائيلي"، ولكن بعد أكثر من 600 يوم، يقف في مكان يعاني من اقتصاد منهار، وجيش منهك، وجبهة داخلية مدمرة، وصورة دولية مكروهة.
الانقسام القاتل بين الصهاينة بعد الحرب
صرح العميد إلياس حنا، الخبير العسكري في المنطقة، بأنه خلال 600 يوم من الحرب، ارتكب الاحتلال مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، وفقًا للأرقام الرسمية، بلغت نحو 55 ألف مدني، معظمهم من النساء والأطفال، ودمر قطاع غزة بالكامل، ومع ذلك، فشلوا في تحقيق أهدافهم في القضاء على المقاومة، وإطلاق سراح الأسرى الصهاينة من غزة، ونزع سلاح القطاع، وأضاف: "كما فشل الصهاينة في تحويل الإنجازات العسكرية إلى إنجازات سياسية، ولم يتمكنوا من استعادة قوة ردعهم المنهارة بعد عملية عاصفة الأقصى، حيث يرى العالم أجمع إسرائيل تنتقم من المدنيين وتذبح النساء والأطفال تعويضًا عن الهزيمة العسكرية والأمنية المخزية التي مُنيت بها".
وأشار هذا الخبير الاستراتيجي إلى أن الصهاينة دخلوا فعليًا ساحة معركة أعدتها المقاومة مسبقًا وحددت أسلوب الحرب فيها؛ وبطريقة ما، غيّر الكيان الصهيوني تكتيكاته عدة مرات، لكن النتائج بقيت على حالها، كما صرح الخبير في الشؤون الصهيونية ساري عرابي قائلاً: إن الانقسام السياسي الناتج عن عدم توظيف بعض الإنجازات العسكرية سياسياً هو ما جعل الحرب السبب الرئيسي للانقسام الداخلي غير المسبوق في "إسرائيل"، وبينما أكد جميع الصهاينة في البداية على ضرورة بدء الحرب ومواصلتها حتى تحقيق جميع الأهداف، يعتقد العديد من الإسرائيليين اليوم أنه لمنع وقوع المزيد من الضحايا، يجب إيقاف الحرب في أسرع وقت ممكن.
وأكد هذا الخبير الناطق بالعربية: لا يمكن للكيان الصهيوني التغلب على عواقب هذا الصراع، لأن هذا الصراع يدور حول مستقبل إسرائيل، ويرى الصهاينة اليوم أن حكومة متطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو تفضل مصالحها الخاصة على المصالح الجماعية لجميع الإسرائيليين، وقد دفعت هذا الكيان إلى حافة الهاوية وعجلت بانهياره.
ضربة قوية لوجود "إسرائيل" بلا جذور
وقالت الدكتورة لقاء مكي، الباحثة في مركز الجزيرة للدراسات، بدورها، إن خطورة هذا الخلاف العميق بين الصهاينة تكمن في أنه ضربة لوجود "إسرائيل" بلا جذور؛ وجود كان دائمًا بين الحروب ولكنه الآن في أكبر حرب وأكثرها تدميراً، وأضاف: صحيح أن غزة دفعت ثمنًا بشريًا واقتصاديًا باهظًا خلال هذه الحرب، لكن الجانب الصهيوني عانى أيضًا من خسائر فادحة على جميع المستويات؛ وخاصة أن الغرب وأمريكا يعاملون "إسرائيل" اليوم كعبء سياسي واجتماعي ثقيل، وعملية تطبيع العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني، التي كانت "إسرائيل" تعتمد عليها لتشكيل تحالف كبير مناهض للمقاومة في المنطقة، تعرضت لضربة قوية بعد عاصفة الأقصى ولم تعد قادرة على المضي قدمًا كما توقعت تل أبيب.
وأشار الباحث الناطق بالعربية إلى أنه على الرغم من التكاليف الباهظة والمتوقعة التي دفعتها، حققت المقاومة الفلسطينية نجاحات سياسية كبيرة، بما في ذلك إجبار الولايات المتحدة على التفاوض مباشرة مع حماس، وخلص إلى أن جميع الأطراف في هذه الحرب دفعت ثمنها، ولكن حتى لو تمكن الكيان الصهيوني من تعويض خسائره الاقتصادية والعسكرية، فإن الضرر المعنوي الذي تكبده لا يمكن إصلاحه، وخاصة أن العالم أجمع قد اعترف بحقيقة "إسرائيل" ووحشيتها، حتى أن بعض الحكومات الأوروبية طالبت بالاعتراف بدولة فلسطين، وأخيرًا، إذا استطاعت المقاومة، كما أثبتت، أن تخرج من هذه الحرب دون نزع سلاحها، فقد نجحت في فرض روايتها على العدو فرضًا كاملًا، وشعب غزة ليس بمنأى عن الدمار.
