الوقت- في ظل تنامي الإدانات الدولية ضد الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، لجأت السلطات الإسرائيلية إلى تكتيكات دعائية جديدة تتجاوز الأعراف الأخلاقية والإنسانية، أبرز هذه التكتيكات تمثل في استغلال الأطفال الإسرائيليين كأدوات دعائية لتبرير سياسات القتل والحصار، وتحسين صورة "إسرائيل" أمام الرأي العام العالمي.
أحدث مثال على هذا النهج ظهر عندما نشرت السلطات الإسرائيلية فيديو دعائي يظهر فيه مجموعة من الأطفال على متن قارب في عرض البحر، مرتدين قمصانًا بيضاء تحمل العلم الإسرائيلي، ويوجهون رسائل استفزازية للناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ، التي كانت على متن سفينة "مادلين" ضمن أسطول الحرية المتجه إلى غزة.
"بن كارسو": طفل يتحول إلى سفير دعائي
من بين الأطفال الذين ظهروا في الفيديو، كان الطفل "بن كارسو" هو الأبرز، لم يتجاوز العاشرة من عمره، لكنه تحدث بلغة إنجليزية واضحة، وبخطاب سياسي مباشر، قال فيه: "نحن أطفال إسرائيل، نبحث عن قارب غريتا. نحن قادمون لنمسك بكم"، وفي محاولة لتوجيه اللوم إلى حركة حماس، قال: "إذا أردتم إطعام غزة، فابدؤوا بإدانة حماس، فهي من تسرق الطعام، وليس إسرائيل".
اللافت أن كارسو لا يُعد شخصية عابرة، بل تم تقديمه إعلاميًا كـ"سفير صغير" يمثل الدولة الإسرائيلية، وسبق له أن ظهر في فعاليات داخل "إسرائيل" وخارجها، مشاركًا مع والدته في مقاطع فيديو تبرر الجرائم العسكرية في غزة، بل ألقى كلمات في عدة دول أوروبية، ضمن استراتيجية إعلامية مركّزة.
قناع البراءة... لإخفاء الوحشية
هذه الخطوة أثارت انتقادات حقوقية وإعلامية حادة، حيث اعتبرها خبراء توظيفًا غير إنساني للطفولة في حملات دعائية لتبرير مجازر موثقة ضد المدنيين، وعلى رأسهم الأطفال في غزة، فبينما تُستخدم صورة "الطفل الناطق باسم الدولة" لإرسال رسائل خادعة للعالم، فإن الواقع في غزة يرسم صورة معاكسة تمامًا: أطفال يُقتلون يوميًا تحت القصف، يُدفنون تحت الأنقاض، ويُحرمون من الغذاء والدواء والتعليم.
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة "أنقذوا الأطفال"، فقد قُتل أكثر من 15 ألف طفل فلسطيني منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، فضلاً عن آلاف الجرحى والمشردين واليتامى، ومع ذلك، تصر "إسرائيل" على تقديم خطاب مضاد يصور أطفالها كضحايا، دون الإشارة إلى الأطفال الذين تُزهق أرواحهم يوميًا نتيجة الحصار والعدوان.
انتهاك لحقوق الطفل تحت غطاء الإعلام
تُعد هذه الممارسات انتهاكًا صارخًا لمبادئ اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1989، التي تحظر استخدام الأطفال في الحملات السياسية أو تعريضهم لمحتوى يحضّ على الكراهية أو العنف.
المنظمات الدولية، وعلى رأسها اليونيسف، ركزت في بياناتها الأخيرة على المعاناة الفادحة لأطفال غزة، لكنها لم تصدر حتى الآن موقفًا واضحًا بشأن استغلال الاحتلال للأطفال الإسرائيليين في مشاهد دعائية منظمة، وهو ما أثار تساؤلات حول ازدواجية المعايير في معالجة الانتهاكات.
استراتيجية "الهاسبارا": عندما تتحول الطفولة إلى أداة حرب
منذ عقود، تعتمد "إسرائيل" على منظومة دعائية تُعرف باسم "الهاسبارا" (Hasbara)، وهي سياسة إعلامية تهدف إلى تجميل صورة الاحتلال في الخارج والتأثير على الرأي العام الغربي، الجديد اليوم هو أن هذه المنظومة باتت تستثمر الرموز العاطفية، مثل الأطفال، كأدوات رئيسية في هذه الحرب الدعائية.
الطفولة، التي يُفترض أن تظل بعيدة عن أدوات الصراع، أصبحت الآن جزءًا من ساحة المعركة الإعلامية، وهو تطور خطير يضع العالم أمام اختبار أخلاقي.
مفارقة الطفولة بين تل أبيب وغزة
في الوقت الذي يُقدَّم فيه "بن كارسو" كرمز للبراءة، يُسلب أطفال غزة من حقهم في الحياة الكريمة، لا صوت لهم، لا منصة، ولا فرصة لتمثيل أنفسهم، بل إنهم ضحايا آلة عسكرية لا ترحم، كل فيديو دعائي يصدر من الاحتلال يوظف فيه الأطفال، يقابله آلاف القصص المأساوية لأطفال فلسطينيين قضوا أو أصيبوا أو شُردوا دون أن يُسمع صوتهم.
من يملك الطفولة يملك الرواية
إن استخدام "إسرائيل" للأطفال في هذا السياق لا يكشف فقط إفلاسها الأخلاقي، بل يعكس حجم أزمتها في مواجهة الوعي العالمي الذي بات أكثر إدراكًا لحقيقة ما يجري في فلسطين.
حين تتحول البراءة إلى قناع لإخفاء المجازر، يصبح من واجب الصحافة الحرة، والمجتمع المدني، والمنظمات الحقوقية أن ترفع الصوت، لا من أجل غزة فقط، بل من أجل الإنسانية ذاتها، حتى لا تُشرعن الحرب على الطفولة، ولا يُستخدم الأطفال كدروع إعلامية في صراع دموي.