الوقت- تُجمع معظم القراءات السياسية على أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة لم تحقق الحد الأدنى مما وُعِد به للفلسطينيين، بل تحولت إلى محطة جديدة من الألم والخسائر الإنسانية. وبينما نجحت حماس في تحقيق مكاسب ملموسة على مستوى إدارة ملف الأسرى والحفاظ على موقعها كطرف أساسي في المعادلة، فإن الشعب الفلسطيني لم يجنِ أي فائدة حقيقية من الاتفاق. فالولايات المتحدة، التي قدمت نفسها كراعٍ للتهدئة، لم تمارس ضغطًا فعليًا على الاحتلال، ولم تقدّم دعماً إنسانيًا يرقى إلى حجم الكارثة. أما حكومة الكيان، فقد استغلت الاتفاق كغطاء لمواصلة جرائمها، ومنع المساعدات، وتوسيع دائرة الدمار.
هذا الواقع القاسي يفرض سؤالًا مصيريًا: إذا كان هذا هو حصاد المرحلة الأولى، فكيف ستكون المرحلة الثانية؟ وماذا لو استمرت المعادلة المختلة نفسها؟ المؤشرات الأولية تثير مخاوف جدية من أن الجولة المقبلة قد تكون أشد قسوة، ما لم يحدث تغيير جذري في آليات الرقابة وضمانات التنفيذ.
مكاسب حماس في المرحلة الأولى رغم انعدام المكاسب الشعبية
رغم الظروف الميدانية القاسية، استطاعت حماس خلال المرحلة الأولى تحقيق جملة من المكاسب السياسية والتفاوضية التي أكدت حضورها المركزي في المشهد. فقد أظهرت قدرة واضحة على إدارة ملف الأسرى بفعالية، وانتزعت اعترافًا دوليًا بأن أي اتفاق أو تهدئة لا يمكن أن يمر من دون مشاركتها المباشرة. كما أثبتت الحركة أنها قادرة على الصمود عسكريًا وتنظيميًا رغم شدة القصف، وهو ما عزز من موقعها في المعادلة الداخلية والإقليمية.
ومع ذلك، فإن هذه المكاسب لم تنعكس على الفلسطينيين الذين كانوا الضحية الأكبر للاتفاق. فالحركة نجحت في تحقيق أهداف تكتيكية تخصّ مكانتها، لكن غزّة بقيت تعاني من الجوع والحصار وانعدام الأمن. وبقدر ما عززت نتائج المرحلة الأولى مكانة حماس، فإنها كشفت أيضًا هشاشة البيئة الإنسانية المحيطة بها، ما يؤكد أن أي إنجاز سياسي لا قيمة له ما لم يُترجم إلى حماية فعلية للمدنيين. فالحركة خرجت أقوى، لكن الشعب خرج أكثر ألمًا وفقدًا، وهو تناقض ينبغي التوقف عنده بجدية.
الدور الأميركي… وغياب أي أثر فعلي على الأرض
طرحت الولايات المتحدة نفسها في المرحلة الأولى كوسيط رئيسي، لكن الأداء الأميركي كان أقرب إلى المجاملة السياسية منه إلى الدور المسؤول. فواشنطن لم تضغط على حكومة الكيان الصهيوني لوقف جرائمها، ولم تُلزِمها بفتح المعابر أو السماح بتدفق المساعدات. وحتى المساعدات التي أعلنت عنها أميركا دخلت في إطار محدود ومتواضع للغاية، لا يتناسب مع حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تحدثت عن التزامها بالتهدئة، فإن الاحتلال واصل القصف والاجتياحات، فيما اكتفت واشنطن ببيانات دبلوماسية غير مؤثرة. هذا الصمت العملي جعل الفلسطينيين يرون الدور الأميركي كجزء من المشكلة لا كجزء من الحل.
وبينما تتحدث واشنطن اليوم عن “حتمية” الانتقال إلى المرحلة الثانية، لا يثق الفلسطينيون بأن الأمور ستختلف ما دامت الولايات المتحدة تكتفي بوعود فارغة لا تحمي طفلاً ولا تمنع قصف منزل. لذلك، فإن الدور الأميركي أصبح محلّ تشكيك واسع، خاصة بعد أن أثبتت المرحلة الأولى أن واشنطن غير مستعدة لمواجهة الانتهاكات الصهيونية بشكل جاد.
استمرار الجرائم الصهيونية وحرمان الفلسطينيين من أي امتياز
كان من المفترض أن تقدم المرحلة الأولى للفلسطينيين متنفسًا إنسانيًا، لكنها تحولت عمليًا إلى مرحلة جديدة من التصعيدالصهيوني. فقد واصل الاحتلال جرائمه ضد المدنيين، مستهدفًا الأحياء السكنية والمستشفيات والبنى التحتية، دون اكتراث بأي اتفاق أو التزام.
لم تُفتح المعابر كما وُعِد، ولم تصل المساعدات سوى بكميات هزيلة لا تلبي حاجة أبسط عائلة في غزة. بل إن حكومة الكيان الصهيوني ضيّقت أكثر على حركة الإغاثة، وجعلت إدخال المواد الغذائية والدوائية عملية بطيئة ومعقدة، ما أدى إلى تفاقم الجوع ونقص الدواء.
في الوقت نفسه، لم يحصل الفلسطينيون على أي امتياز فعلي مما نُصّ عليه الاتفاق. لا وقف إطلاق نار فعلي، ولا تسهيلات إنسانية، ولا ضمانات أمنية. بل إن كثيرين يرون أن حكومة الكيان استغلت الهدنة لإعادة تنظيم قواتها، وتحديد أهداف جديدة، والاستعداد لجولة أخرى من العدوان.
هذه الحقائق تجعل المرحلة الأولى مثالًا صارخًا لاتفاق شكلي استفادت منه إسرائيل على الأرض، فيما دفع الفلسطينيون الثمن مضاعفًا: وعود بلا تنفيذ، وتهدئة بلا أمان، واتفاق بلا معنى.
هل ستكون المرحلة الثانية أسوأ؟
إذا كانت المرحلة الأولى قد حملت هذا الحجم من الإخفاقات والانتهاكات، فإن المخاوف من المرحلة الثانية تزداد يومًا بعد يوم. فالمعادلة لا تزال نفسها: حكومة الاحتلال تواصل جرائمها دون رادع، الولايات المتحدة تكتفي بالتصريحات، والفلسطينيون يغرقون في مزيد من الألم والمعاناة.
وما دامت الضمانات غائبة، فإن المرحلة الثانية قد تتحول إلى إعادة إنتاج لسيناريو أكثر قسوة، إذ من المحتمل أن تستغل إسرائيل الجولة المقبلة لتوسيع سيطرتها، أو تنفيذ عمليات جديدة تحت غطاء سياسي فضفاض. أما الآليات الأميركية للمراقبة، فقد أثبتت عجزها التام في المرحلة الأولى، ولا شيء يشير إلى قدرتها على منع الاحتلال من خرق الاتفاق مجددًا.
الفصائل الفلسطينية حذرت بوضوح من أن المرحلة الثانية لن تُقبل بالشروط السابقة، وأن أي تقدم يجب أن يرتبط بضمانات دولية صارمة، وإشراف حقيقي، ووقف شامل للعدوان. فإذا استمرت الأمور على النهج ذاته، فإن المرحلة المقبلة لن تكون مجرد فشل سياسي، بل كارثة إنسانية جديدة قد تكون أشد وطأة من كل ما سبق.
غياب الإرادة الدولية وتفكك النظام الإنساني في غزة
أحد أخطر دروس المرحلة الأولى يتمثل في الانهيار شبه الكامل للإرادة الدولية تجاه ما يجري في غزّة. فقد تراجعت الأمم المتحدة إلى دور المتفرج، بينما فشلت المؤسسات الإنسانية في فرض الحد الأدنى من الحماية للسكان. وأمام هذا العجز الدولي، تمكنت إسرائيل من الالتفاف على كل الوعود والاتفاقات، مستغلة غياب من يحاسبها أو يوقف تجاوزاتها.
كما أن الدول الكبرى اكتفت بتصريحات قلقة دون أي خطوات عملية، فيما انشغلت بعض الدول الإقليمية في حساباتها الخاصة على حساب الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع. كل ذلك خلق بيئة سياسية خطيرة سمحت لإسرائيل بالعمل خارج أي رقابة، وأفقدت الاتفاق قيمته القانونية والإنسانية.
إن غياب الإرادة الدولية لم يؤثر فقط على الواقع الميداني، بل ضرب الثقة الشعبية في أي مسار تفاوضي قادم. فالفلسطينيون شعروا بأن المجتمع الدولي عاجز أو غير راغب في حماية المدنيين، وأن المرحلة الأولى أثبتت أن الاتفاقات بلا حماية لا تعني شيئًا على الإطلاق. وإذا استمر هذا الانهيار الدولي، فإن المرحلة الثانية لن تكون مجرد إخفاق سياسي، بل انهيارًا كاملًا للمنظومة الإنسانية والقانونية في مواجهة العدوان.
في الختام، تؤكد التجربة المريرة للمرحلة الأولى أن الاتفاق لم يكن سوى غطاء هش لممارسات صهيونية أكثر شراسة، وسط صمت دولي وانحياز أميركي واضح. فحماس حققت مكاسب سياسية، لكن الشعب الفلسطيني لم يجنِ سوى الألم والجوع وفقدان الأمن. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي وفشل الولايات المتحدة في توفير أي حماية أو ضغط حقيقي، تبدو المرحلة الثانية مهددة بأن تكون أسوأ بكثير من سابقتها.
لذلك، فإن أي نقاش حول المرحلة المقبلة يجب أن يستند إلى نقد جذري للمرحلة الأولى، ووضع ضمانات واضحة تمنع الاحتلال من الاستفادة من الاتفاق على حساب دماء الفلسطينيين. بدون ذلك، ستتكرر المأساة، وسيبقى الشعب الفلسطيني الضحية الأكبر لاتفاقات لا تحميه ولا تخدم مصالحه.
