الوقت- تأتي زيارة أبو محمد الجولاني إلى الدوحة لتشكّل علامة فارقة في التحوّلات التي شهدتها صورة الرجل خلال السنوات الماضية. فالقائد الذي ارتبط اسمه لسنوات بتنظيمات متشددة في الشمال السوري، يظهر اليوم داخل أحد أهم المقرات الإعلامية العربية، في مشهد يحمل دلالات تتجاوز البروتوكول باتجاه إعادة هندسة دوره سياسياً وإعلامياً.
هذه الزيارة ليست تفصيلاً عابراً؛ فهي تمثّل تتويجاً لمسار طويل من إعادة صياغة صورة الجولاني، بدءاً من الخطاب التلفزيوني الذي خفّف حدة لغته، وصولاً إلى الظهور بالزي المدني، وانتهاءً بتقديم نفسه بوصفه فاعلاً محلياً قادراً على إدارة منطقة واسعة.
الجهة الإعلامية التي استقبلته لعبت دوراً محورياً في هذا التحوّل؛ فهي نفسها التي منحت الجولاني سابقاً مساحة لترويج سردية المقاومة، قبل أن تنتقل لاحقاً إلى مرحلة أكثر حساسية: مرحلة التبييض الإعلامي التي استندت إلى تظهيره كقائد منضبط يدير منطقة مستقرة مقارنة بمناطق الفوضى الأخرى. وبهذا المعنى، تبدو زيارة الدوحة خطوة محسوبة ضمن مشروع أكبر يتجاوز الإعلام إلى السياسة.
دوافع التبييض الإعلامي: تسوية غير معلنة ورغبة في ضبط الشمال
عملية تلميع الجولاني لم تكن مبادرة إعلامية فقط، بل نتاج تقاطع مصالح سياسية وأمنية. فبعض الأطراف الإقليمية وجدت في الجولاني نموذجاً محلّياً قابلاً للضبط، قادراً على منع مزيد من التشظي داخل الشمال السوري، ومتوافقاً مع سيناريوهات الإدارة المحلية التي باتت جزءاً من واقع ما بعد الحرب.
التبييض الإعلامي جاء كأداة لتسهيل قبول هذا التحوّل؛ إذ أُعيد تصوير الجولاني كقوة أمر واقع يمكن التعامل معها، خصوصاً بعدما قدّم نفسه كخصم للمجموعات الأكثر تشدداً وأقرب إلى فكرة الحوكمة من العسكريّة البحتة.
وفي ظل غياب بدائل أخرى على الأرض، بدا استثمار بعض القوى في الجولاني جزءاً من استراتيجية إقليمية تهدف إلى خلق فصيل معتدل نسبياً يؤدي دور الشرطي المحلي. ومن هنا، اكتسبت التغطيات الإعلامية طابعاً تبريرياً ضمنياً، يُعيد تشكيل صورة الرجل ويمنحه هامشاً للاندماج في المعادلات السياسية الجديدة.
سوريا بعد الأسد… دولة لم تسقط لكنها لم تقم
يترافق الحديث عن الجولاني مع سؤال أعمق: ما شكل سوريا اليوم؟ فالبلاد لم تعد الدولة المركزية الصلبة التي عرفها السوريون لعقود، ولا أصبحت كياناً جديداً يمكن توصيفه بسهولة. إنها حالة بين بين: دولة لم تسقط رسمياً، لكنها لم تقم فعلياً.
الحديث عن سوريا بعد الأسد لا يشير إلى رحيل النظام، بل إلى انهيار النموذج الذي حكم البلاد لعقود، وتفكك مؤسسات كانت تشكل عماد الدولة. وبينما تتصاعد خطابات حول إعادة البناء من الصفر، تبقى هذه الوعود بلا أدوات تنفيذية، لأن الأرضية التي يفترض أن تنهض عليها أي عملية إعادة بناء باتت مدمرة أو منهوبة أو خاضعة لسلطات متعدّدة.
المشهد السوري اليوم هو خليط من سلطات الأمر الواقع، الحدود الداخلية، الانهيار الاقتصادي، وتحوّل المجتمع إلى كتل متباعدة فقدت الرابط السياسي الذي كان يجمعها. وفي ظل هذا التفكك، تصبح الوعود بإعادة صياغة الدولة أقرب إلى أمنيات سياسية منها إلى خطط قابلة للتنفيذ.
نهب مزدوج: بين استغلال إسرائيل للجولان واستغلال السلطة لبقية البلاد
لا يمكن فهم الواقع السوري من دون الاعتراف بوجود نهب مزدوج يتقاطع خارجياً وداخلياً.
خارجياً، تعمل إسرائيل منذ سنوات طويلة على تغيير وجه الجولان بالكامل عبر مشاريع زراعية ومائية وسياحية تكرّس احتلالها وتحوّل المنطقة إلى امتداد اقتصادي لها. وقد استفادت تل أبيب من الفوضى السورية لتعزيز سيطرتها، ما يجعل أي حديث عن استعادة المنطقة أكثر صعوبة.
داخلياً، انتهجت السلطة في دمشق سياسات نهب ممنهجة طالت ممتلكات السوريين المنهوبين والمهجرين عبر قوانين وتعديات أمنية، فيما شاركت ميليشيات محلية وأجنبية في السيطرة على الأحياء والمزارع والممتلكات. وقد ترافقت هذه السياسات مع عمليات قمع واسعة، قتلت وشرّدت ودفعت ملايين السوريين إلى خارج البلاد، فيما بُنيت جدران أمنية داخل المدن تفصل بين مناطق النفوذ ومراكز الهيمنة.
بهذا المعنى، يعيش السوريون بين نهبين: نهب الاحتلال ونهب السلطة، وكلاهما جعل فكرة الدولة الموحدة أقرب إلى الخلفية التاريخية منها إلى الواقع المعاش.
إعادة الإعمار… مشروع بلا قاعدة وبلد بلا بنية
رغم كثرة الحديث عن إعادة الإعمار، تبدو الفكرة مجرد عنوان فضفاض يفتقر إلى أبسط المقومات. فالبلاد لم تحتفظ ببنيتها التحتية، ولا بقواها العاملة، ولا بمواردها الطبيعية، فضلاً عن أن النسيج الاجتماعي نفسه أصيب بضرر عميق يصعب ترميمه سريعاً.
إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية تتطلب ميزانيات ضخمة، بل عملية سياسية واجتماعية تحتاج إلى دولة ذات سيادة وقرار مستقل، وإلى مجتمع قادر على إنتاج عقد اجتماعي جديد. لكن الواقع الحالي يقدّم صورة معاكسة تماماً: نفوذ متعدد، احتلالات، ميليشيات، اقتصاد منهار، وغياب أي مركز سياسي مستقل.
لذلك، يصبح السؤال الحقيقي ليس كيف سنعيد الإعمار؟ بل ما الذي بقي ليعاد إعماره أصلاً؟. فالخراب لم يعد مادّياً فقط؛ إنّه خراب سياسي ووجداني وهويّاتي، يسبق الخراب المعماري ويتجاوزه.
الجولاني… صورة جديدة داخل بلد بلا صورة
في النهاية، يبدو الجولاني رمزاً لمرحلة كاملة أكثر منه حالة فردية. فالرجل يمثل فصائل نشأت على عقائد متشددة ثم تحولت إلى سلطات محلية تحكم مناطق محاصرة اقتصادياً وسياسياً. وهو في الوقت ذاته تجسيد لفراغ الدولة، لا لميلاد بديل حقيقي لها.
إنّ حضوره في الدوحة ليس حدثاً مستقلاً، بل خطوة داخل سياق يعيد ترتيب المشهد على قاعدة إدارة الواقع بدل تغييره. وربما لهذا السبب تتقدّم صورته في الإعلام فيما تتأخر صورة سوريا نفسها؛ لأن البلاد، ببساطة، لم تعد تملك صورة واحدة، بل صوراً متداخلة لقوى متصارعة وخراب متجدد.
وبينما يستمر الحديث عن إعادة بناء سوريا، يظل الواقع يشير إلى أن ما يجري هو إعادة تدوير للأدوار لا إعادة بناء للدولة، وأن الجولاني، بكل ما يمثله من تحوّلات وجدليات، ليس بداية مرحلة جديدة، بل علامة على أن المرحلة القديمة لم تُطوَ بعد.
