الوقت- جاءت تصريحات أحمد الشرع (الجولاني)، رئيس المرحلة المؤقتة في سوريا، في توقيت شديد الحساسية، تزامناً مع موجة هجمات إسرائيلية متتابعة على مواقع داخل الأراضي السورية، وما رافقها من انتقادات لاذعة طالت الشرع بسبب ما اعتبره البعض "غياباً للفعل" أو حتى "تسليماً" أمام هذه الضربات. خلال لقائه مع مسؤولي حلب، بدا الجولاني وكأنه يردّ بشكل غير مباشر على تلك الانتقادات، عبر التأكيد أن إسرائيل تُعد من أكثر الدول انزعاجاً من مسار تحرير سوريا، وأن مواقفها الحالية ليست سوى انعكاس لخشيتها من تغيّر المعادلة الداخلية. هذه الرسائل تحمل في طياتها محاولة لشرح الأسباب السياسية لصمت الردّ العسكري، وتوجيه النقاش نحو قراءة أوسع لطبيعة المرحلة الانتقالية، بعيداً عن منطق رد الفعل الغاضب أو العفوي.
بين انتقادات “اللا-فعل” ومتطلبات الحكم: الحسابات الصعبة لرئيس المرحلة الانتقالية
يرى كثيرون أن الانتقادات التي طالت الشرع لم تكن مرتبطة فقط بالضربات الإسرائيلية، بل بغياب خطاب واضح يحدد استراتيجية التعامل مع الطرف الإسرائيلي خلال المرحلة الحالية. ومع ذلك، يظهر أن الجولاني أراد من خلال تصريحاته نقل النقاش من نطاق لماذا لم نرد؟ إلى نطاق كيف يمكن أن نحافظ على استقرار دولة تولد من رماد الحرب؟. فالرجل يدرك أن الدولة التي تعاني من هشاشة البدايات، وتعمل على إعادة بناء مؤسساتها، لا يمكنها تحمّل حرب مفتوحة قد تستنزف ما تبقى من قوتها. وهذا لا يعني قبولاً بالاعتداءات، بقدر ما يعكس إدراكاً بأن القرار العسكري في هذه المرحلة لا ينفصل عن الحسابات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تحيط بالبلاد من كل اتجاه.
إسرائيل وإعادة رسم قواعد الاشتباك: تحذيرات المعركة الكبرى
على الجانب الآخر، لا يبدو أن إسرائيل تنظر إلى الوضع السوري بعين الهدوء. فالتصريح الذي أطلقه أحد الوزراء الإسرائيليين حول احتمال تحوّل سوريا إلى ساحة معركة كبيرة يكشف عن رغبة تل أبيب في منع تشكّل قوة سورية جديدة قادرة على فرض قواعد اشتباك مختلفة. إسرائيل تدرك أن أي استقرار سياسي داخل سوريا قد يترافق مع إعادة بناء قدرات عسكرية أو أمنية قد لا تكون بالضرورة منسجمة مع مصالحها. لذلك، تبدو تل أبيب وكأنها تعتمد استراتيجية الضربات المتكررة لعرقلة أي بنية جديدة قد تتكوّن داخل المشهد السوري. في هذا السياق، تصبح تصريحات الشرع رداً سياسياً على تهديد عسكري، ومحاولة لوضع حدّ لسردية إسرائيل تريد تصوير سوريا فيها كأرض مستباحة بلا قدرة على التماسك.
سوريا في مرحلة إعادة الإعمار: دولة تتعافى أم دولة تُختبر؟
عندما يؤكد الشرع أن سوريا في مرحلة إعادة الإعمار، فإنه لا يطلق تصريحاً بروتوكولياً أو دبلوماسياً، بل يعيد صياغة هوية المرحلة نحو رؤية جديدة مفادها أن مستقبل البلاد بات يحتاج إلى العمل أكثر من الحرب. ومع ذلك، فإن إعادة الإعمار ليست مجرد إعادة حجارة أو فتح طرق، بل إعادة بناء ثقة مجتمعية وسياسية واقتصادية كانت قد تآكلت عبر سنوات الصراع. إن تأكيده أن سوريا ليست دولة ضعيفة ليس مجرد ردّ نفسي على الضربات الإسرائيلية، بل رسالة مزدوجة: الأولى تطمئن الداخل بأن مؤسسات الدولة قادرة على الانطلاق مجدداً، والثانية للخارج بأن الفراغ الذي عاشته البلاد لن يكون قائماً بعد الآن. ومع ذلك، هذه المرحلة شديدة الحساسية، لأن أي إخفاق في تحقيق تحسن ملموس قد ينعكس سلباً على مكانة السلطة الانتقالية.
بين إرادة الشعب وإرهاق الحرب: الحاجة إلى استقرار يسبق المواجهة
يشدد الشرع على أن الشعب السوري يريد السلام والأمن والاستقرار، وهي جملة تعكس حقيقة ميدانية ووجدانية في آن واحد. السوريون الذين عاشوا سنوات من الصراع لم يعودوا مستعدين لخوض جولات مواجهة جديدة لا يعرفون متى تنتهي، خصوصاً في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وانقسامات اجتماعية تحتاج إلى جهود مضنية لترميمها. ولذلك، لا يمكن فهم خطاب الشرع إلا من زاوية أنه يحاول إقناع الداخل بأن المسار السياسي هو الأساس، وأن أي مواجهة عسكرية مع قوة كإسرائيل في هذا التوقيت قد تعرقل عملية التعافي. لكن هذا المسار يحتاج بدوره إلى نتائج واضحة كي يكتسب الشرعية الشعبية، وإلا فسيجد الشرع نفسه أمام شارع لا يكتفي بالخطابات مهما كانت نبرة الصدق فيها.
صراع الروايات بين الداخل والخارج: كيف يُقرأ خطاب الشرع على طاولة الإقليم؟
وسط هذا المشهد المتشابك، يبرز صراع واضح بين الرواية الداخلية التي يحاول الشرع ترسيخها، والرواية الإقليمية والدولية التي تتعامل مع سوريا بوصفها ساحة نفوذ وليست دولة مستقلة في طور التعافي. فخطابه الذي يركّز على الاستقرار وإرادة الشعب يصطدم أحياناً مع قراءات تُقدّم سوريا كدولة هشة يسهل التأثير على قراراتها. هذا التباين بين المنظورين يجعل مهمة الشرع أكثر تعقيداً، إذ عليه أن يثبت للداخل أن الدولة قادرة على حماية قرارها السياسي، وللخارج أن سوريا لا تُدار بردود فعل، بل بخيارات محسوبة تُبنى على مصالح وطنية واضحة.
اختبار المرحلة المقبلة: شرعية الصمت أم شرعية الفعل؟
تضع هذه التطورات الجولاني أمام اختبار حقيقي: فهل يستطيع تحويل الصمت العسكري إلى استراتيجية سياسية مقنعة، أم أن هذا الصمت سيتحوّل لاحقاً إلى عبء داخلي؟ المرحلة المقبلة تتطلب منه أن يوازن بين ضرورة ترسيخ مؤسسات الدولة وبين التعامل العقلاني مع الضغوط الخارجية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على تعهداته تجاه الشارع. ولن يكون هذا سهلاً، إذ إن كل خطوة في المشهد السوري الجديد تحمل معها أثماناً سياسية وأمنية. ومع ذلك، يبقى الرهان الأكبر على قدرة السلطة الانتقالية على تحويل هذا التحدي إلى فرصة لبناء دولة قادرة على فرض معادلات جديدة تدريجياً، بعيداً عن ردود الفعل الانفعالية أو الاستسلام لواقع مفروض.
